يحدث أن تلمح عيناك في بعض الفضاءات الصاخبة بباريس إعلانات لامرأة مسلمة متحجبة وبجانبها فتاة غربية تبدي مفاتن جسمها الرشيق، والاثنتان تقدمان إشهارا لمواد تجميلية. ربما يعكس الإعلان بقصد أو عن غير قصد التفاوت والصراع القائمين بين ثقافتين: غربية متمردة لا تعترف بالموروث الاجتماعي كقاعدة مرجعية في الفكر والسلوك، وإسلامية متمسكة بثوابت هويتها وترفض الاندماج في ثقافة جديدة عليها. والصراع الذي لا يمكن حصره بالطبع في مجرد إظهار المفاتن أو حجبها، غالبا ما ينتهي لصالح الفئة الأولى التي ترفض بشدة سلطة المرجعيات الأخلاقية وتصر على التحرر من الأنماط السلوكية "البالية" شعارها في ذلك أن الجسد ملك لصاحبه، ومن حقه أن يفعل به ما يشاء. مثل هذا التصادم حاضر بقوة في أسواق الدعارة الفرنسية التي تعج بعشرات المئات من بنات الوطن العربي اللواتي يمارسن البغاء بكل صنوفه بدءا من صالونات التدليك والفنادق إلى بيوت الدعارة والشاحنات الصغيرة التي تنتصب ببعض مداخل باريس وبالحدائق الغابوية كجزء من قلاع البغاء والفساد بباريس. وتسعى الباغيات الفرنسيات أو العاملات في الحقل الجنسي إلى تنظيم أنفسهن نقابيا لمواجهة تدفق بائعات الهوى الوافدات من البلدان العربية ومعظمهن من المغرب العربي وبلاد الشام (لبنان، سوريا والأردن وحتى مصر) حيث المنافسة وإن كانت تُكسب الفرنسيات نقطا بخصوص الأناقة وحسن المظهر، فإنها في غير صالحهن فيما يخص الجمال وصغر السن وأيضا قبول الوافدات بأسعار تقل كثيرا عن تسعيرة بنات البلد. وعلى خلاف بعض الدول الأوربية مثل ألمانيا وهولندا والبلدان الإسكندنافية التي تتعامل مع الدعارة كمهنة مقننة مثل باقي المهن، تعيش فرنسا جدلا واسعا بين من يرى في الدعارة نوعا من الاستغلال والاستعباد الذي يتعين ردعه وتحريمه، ومن يعتبرها نشاطا كباقي الأنشطة المهنية يتطلب نصوصا وتشريعات ترسم شروط وآليات الممارسة. وبين رأي الفريقين تطفو ميدانيا على السطح، لعبة القط والفأر بين الساسة ومحترفي البغاء حيث السلطات لا تتعامل مع الدعارة سوى من زاوية تضييق الخناق عليها وخلق بعض المتاعب لممارسيها وخاصة شبكات البغاء المرتبطة بالهجرة التي ينظر إليها كواحدة من العوامل الرئيسية في تفشي الفساد والرذيلة. أما واقع البغاء المغربي بباريس، فيأخذ أشكالا متعددة ضمن ثلاثة صنوف من شغالات الجنس.. صنف وُلد وترعرع في الوسط الاغترابي ويحترف البغاء بدافع المتعة والحصول على المال. ، وتلجأ هذه الفئة في معظم الأحيان إلى الملاهي الليلية العربية، وخاصة المراقص اللبنانية المتكاثرة بباريس، حيث الأجواء مناسبة لاقتياد الفرائس، بعد انتهاء ساعات السهر، لبعض الفنادق المجاورة التي يتراوح سعر المبيت بها ما بين 400 و500 أورو. والصنف الثاني تم تهجيره بواسطة عقود عمل تقضي باحتراف البغاء وإسعاد الزبائن مقابل أجور مغرية تتراوح ما بين 1200 و 1800 أورو شهريا (حوالي 15 إلى 20 ألف درهم). وتعيش هذه الفئة التي تم تهجيرها تحت وعود كاذبة، حالات استرقاق حقيقية تخفي وراءها مآسي إنسانية عديدة. وتبدأ رحلة عذابها عند الوصول إلى العاصمة حيث يتحول حلم العيش الرغيد إلى جحيم بمجرد معاينة الواقع واكتشافهن الخدعة.. فوسطاء البغاء يفضلون استدراج شغالات الجنس لا لبغاء المراقص والحانات وصالونات التدليك، وإنما لأشد أنواع البغاء استهتارا بالكرامة البشرية : دعارة البيوت التي تستوجب من بائعة الجسد ممارسة الجنس مع أكبر قدر من الوافدين وبأجور زهيدة، إذ تتجاوز الممارسة في معظم الأحيان عشرين زبونا في اليوم من فئات الآسيويين والأفارقة وغيرهم من المهمشين الذين يجدون ضالتهم في هذه الممارسة حتى وإن كانت تفتقر إلى بعض مستلزمات النظافة والصحة. أما الفئة الثالثة فتشمل الطالبات ومعظمهن مجبرات على تأمين مصاريف العيش والكراء والمستلزمات الدراسية المختلفة. غير أن الشائع في أوساط البغاء الطلابية، أن طالبات المغرب على الخصوص، لا يبعن أجسادهن بدافع الحاجة فقط، وإنما أيضا بدافع الإغراء والاستمتاع بحياة الانفتاح الغربية والتأثر بزميلاتهن المغاربيات وخاصة العربيات المقيمات بفرنسا (لبنانيات، سوريات، مصريات ..). والباحث في أوضاعهن لا بد وأن يقف على مجموعة من التناقضات والاختلالات في التنشئة والقناعة والتوجه. فهناك فئات منهن تأثرن بسرعة بشابات الهجرة وانسلخن بشكل مباغث عن أصولهن ونشأتهن الاجتماعية...فلا نفوذ أو تأثير لذويهن عليهن. وتراهُن تائهات في سلوكهن حيث لحم الخنزير في ثقافتهن لحم مسموح ولذيذ، والأفلام الإباحية جزء من المتعة الحياتية، والدعارة والفساد اختيار لا شأن للآخر فيه ما دام الجسم ملك لصاحبه، والاحتشام والوقار ضرب من الممارسات الماضوية. وتمكنت هذه الفئة من الانغماس والذوبان في المجتمعات المضيفة إلى حد أنها تتفادى بنات جلدتها "المتزمتات الغبيات"، ولا تتماهى إلا مع الوجه القذر للحضارة الغربية الذي يقدم الجسد الأنثوي كسلعة قابلة للتجارة، ويتعامل معه عبر تسويقه في الأغاني والإعلانات التجارية. وتعيش هذه الفئة التي ترفض اليوم العودة إلى وطنها، ضمن مناخين لم ينتج عنهما مناخ معتدل: تجدها بالنهار ميالة إلى التقوقع والانغلاق داخل بيوتها، حتى إذا أتى الليل، تتسارع نحو مختلف المراقص العربية للبحث عن عاشق ليلة تغتال بقربه حالات الاغتراب والإحباط النهارية.