من تداعيات الهجمات الدامية التي أودت بحياة 130 شخصا وجرح المئات بباريس أن أقرت الحكومة الاشتراكية برئاسة مانويل فالس الجمعة إصلاحا يتم بموجبه رفع ميزانية الاستخبارات الأمنية بنسبة 90 في المئة تسمح بتعزيز الترسانة الأمنية من خلال قطبين رئيسيين، قطب الاستعلامات الخاصة بالتيارات المتطرفة وحماية "المصالح المركزية للدولة"، وقطب ثاني يشتغل على "المعلومات العامة" المرتبطة بالتماسك الوطني والنظام العام بما في ذلك مراقبة الإجرام والعنف الحضري والحركات الاجتماعية. وتخص الميزانية الجديدة إطلاق أقمار اصطناعية جديدة وأجهزة اتصالات وتجسس أخرى، كما تتيح تجنيد نحو عشرة آلاف جندي لتولي مهمات أمنية داخلية تتنوع من مكافحة الهجمات الجرثومية إلى التصدي للهجمات عبر الانترنت. وسيتم بموجب الإصلاح الجديد الذي يشمل المنظومة الاستخباراتية بكاملها، إحداث مجلس وطني للأمن مقره قصر الإليزيه (القصر الرئاسي)، وتطوير جيش إلكتروني قوي وفعال لمواجهة التحديات الأمنية الداخلية والخارجية وفي مقدمتها الإرهاب. وتقوم رؤية الرئيس فرانسوا هولاند على أنه "ليست هناك قوة أمنية ودبلوماسية كبيرة من دون قوة استعلامية كبيرة" لا سيما وأن التهديد المباشر الذي هو "الإرهاب" بات يأخذ، برأيه، أشكالا مختلفة بيولوجية وكيمياوية. ويختلف المشهد الاستخباراتي اليوم عن سابقه أثناء الحرب الباردة حيث الحاجيات الاستعلامية تضاعفت وتنوعت، والتهديدات الأمنية اختلفت. فمن كان يتوقع قبل عشر سنوات أن تفضي أحداث الضواحي التي انفجرت إثر كلمة "الرعاع" التي قالها ساركوزي، وزير الداخلية آنذاك، في حق الشباب، إلى الإعلان عن حالة الطوارئ بالبلاد. ومن كان يظن أن يهز شيخ اسمه بن لادن يعيش في وديان أفغانستان وجبالها، الأرض تحت أقدام أمريكا التي جندت ضده أقوى جيوش العالم قبل أن تغتاله سنة 2011. وتجتهد المصالح الاستخباراتية الفرنسية برمتّها (الشرطة، الدرك، الجيش) في استباق مخاطر "الإرهاب الإسلامي" الذي يتهدد البلد، حيث تقبع فرنسا اليوم تحت عيون مخابراتية دقيقة وفاحصة للتيارات والمنظمات الإسلامية. وتشرك معها أحيانا تحت ذريعة الأمن أو ما تسميه ب"الخطر الإسلامي"، أجهزة استخبارات أجنبية تنشط إلى جانبها في جمع المعلومات وفي مراقبة المساجد وحضور الندوات الإسلامية بغية التأكد من محتوياتها الدينية والسياسية. ولأنها تحتاج إلى المعلومات في مختلف المجالات بدءا من الابتكارات التكنولوجية والإعلامياتية إلى المعلومة العسكرية والفضائية وغيرها، فإن مصالح الاستخبارات تُشغل عسكريين ومدنيين وعلماء وباحثين ومحللين وإعلاميين يمدونها بمعلومات في منتهى الدقة لتفادي نتائج قد تكون كارثية على مستوى القرار السياسي. وأقل ما تمتلك الدول في مجال الاستخبارات مصلحتين أساسيتين، واحدة تهتم بالأمن الداخلي (التجسس المضاد) وأخرى تتولى الأمن الخارجي (التجسس خارج التراب الوطني). ومن مهام المؤسستين اللتين تشهدان تنافسا وصراعا قويين بينهما في محاولة كل واحدة تحقيق السبق أو الاستفراد بالمعلومة، مواكبة التطورات السياسية بالخارج وتوفير ما يلزم من معلومات مرتبطة بمراقبة التراب وتقوية الدور السياسي الفرنسي من خلال العدد الكبير من الموظفين بسفارات فرنسا وخاصة السفارات المحورية مثل موسكو وواشنطن وبرلين ولندن وتل أبيب. أما المغرب العربي الذي تقيم فرنسا مع بلدانه علاقات متميزة، فقد عملت إدارة مراقبة التراب الفرنسية على تطوير شبكة واسعة من المخبرين في إطار ما تسميه بمكافحة الإرهاب وحماية مواطنيها. والمعروغ عن الأجهزة الاستخباراتية الداخلية المكلفة بمكافحة ما تسميه ب"الخطر الإسلامي"، أنها تتذرع بحجة اهتمامها بالمشكلة الإسلامية لكي تمارس تأثيراتها السياسية والاجتماعية الضاغطة في مجالات أخرى. وهي لا تكتفي بوضع أعينها على الأصوليين لكي تستبق ما قد يشكل تهديدا لأمنها، بل تراقب النخب الدينية المغاربية والإفريقية لمجرد أنها من أصول إسلامية. ولذلك نجد عددا من هؤلاء يخضعون بشكل دائم لاستجوابات وتحقيقات لا نهاية لها عن أنشطتهم وارتباطاتهم داخل وخارج فرنسا.