"من دون استخبارات لا يمكن لأية دولة أن تضمن البقاء سياسيا ودوليا. والصحافة الوطنية وفي مقدمتها وكالة الأنباء الفرنسية تلعب ضمن نشاطها الإعلامي اليومي دورا لا يستهان به في ما يخص توفير المعلومات اللازمة لاتخاذ القرار السياسي أو الأمني المناسب". بهذه العبارة لخص الرئيس فرانسوا هولاند الدور الحيوي للمخابرات في استباق الأحداث ودرء المخاطر والكوارث الاجتماعية والسياسية المحتملة. ولأنها تحتاج إلى المعلومات في مختلف المجالات بدءا من الابتكارات التكنولوجية والإعلامياتية إلى المعلومة العسكرية والفضائية وغيرها، فإن مصالح الاستخبارات تُشغل عسكريين ومدنيين وعلماء وباحثين ومحللين وإعلاميين يمدونها بمعلومات في منتهى الدقة لتفادي نتائج قد تكون كارثية على مستوى القرار السياسي. وأقل ما تمتلك الدول في مجال الاستخبارات مصلحتين أساسيتين، واحدة تهتم بالأمن الداخلي (التجسس المضاد) وأخرى تتولى الأمن الخارجي (التجسس خارج التراب الوطني). ومن مهام المؤسستين اللتين تشهدان تنافسا وصراعا قويين بينهما في محاولة كل واحدة تحقيق السبق أو الاستفراد بالمعلومة، تتبّع التطورات السياسية بالخارج وتوفير ما يلزم من معلومات مرتبطة بمراقبة التراب وتقوية الدور السياسي الفرنسي من خلال العدد الكبير من الموظفين بسفارات فرنسا وخاصة السفارات المحورية مثل موسكو وواشنطن وبرلين ولندن وتل أبيب. أما المغرب العربي الذي تقيم فرنسا مع بلدانه علاقات متميزة، فقد عملت إدارة مراقبة التراب على تطوير شبكة واسعة من المخبرين في إطار ما تسميه بمكافحة الإرهاب وحماية مواطنيها. وفي سابقة باغتت الكثير من الخبراء، قرر الرئيس السابق ساركوزي قبل سنة من تنحيه عن السلطة، استجماع إدارة مراقبة التراب مع مصلحة الاستعلامات العامة في مديرية واحدة أطلق عليها اسم "المديرية المركزية للاستعلامات الداخلية"، ومهامها موزعة ضمن قطبين رئيسيين، قطب "الاستعلامات" ويحرص على حماية "المصالح المركزية للدولة"، وقطب ثاني يشتغل على "المعلومات العامة" المرتبطة بالتماسك الوطني والنظام العام بما في ذلك مراقبة الإجرام والعنف الحضري والحركات الاجتماعية. وتقوم رؤية الأجهزة الاستخباراتية الجديدة على أنه ليست هناك قوة عسكرية ودبلوماسية كبيرة من دون قوة استعلامية كبيرة لا سيما وأن التهديد المباشر الذي هو "الإرهاب" بات يأخذ، برأيها، أشكالا مختلفة بيولوجية وكيمياوية. ويختلف المشهد الاستخباراتي اليوم عن سابقه أثناء الحرب الباردة حيث الحاجيات الاستعلامية تضاعفت وتنوعت، والتهديدات الأمنية اختلفت. فمن كان يتوقع قبل عشر سنوات أن تفضي أحداث الضواحي التي انفجرت إثر كلمة "الرعاع" التي قالها ساركوزي في حق الشباب، إلى الإعلان عن حالة الطوارئ بالبلاد. ومن كان يظن أن يهز شيخ اسمه بن لادن يعيش في وديان أفغانستان وجبالها، الأرض تحت أقدام أمريكا التي جندت ضده أقوى جيوش العالم قبل أن تغتاله سنة 2011. وتجتهد المصالح الاستخباراتية الفرنسية برمتّها (الشرطة، الدرك، الجيش، المخبرون المدنيون والإعلاميون...) في استباق مخاطر "الإرهاب الإسلامي" الذي يتهدد البلد، على حد زعم ساسته من أحزاب اليمين واليسار معا، حيث تقبع فرنسا اليوم تحت عيون مخابراتية دقيقة وفاحصة للتيارات والمنظمات الإسلامية. وتشرك معها تحت ذريعة الأمن أو ما تسميه ب"الخطر الإسلامي"، أجهزة المخابرات المغاربية التي تنشط إلى جانبها في جمع المعلومات وفي مراقبة المساجد وحضور الندوات الإسلامية بغية التأكد من محتوياتها الدينية والسياسية. وتُشغل الأجهزة الاستخباراتية المكلفة بمكافحة ما تسميه ب"الخطر الإسلامي"، جيشا عرمرما من الباحثين والمحللين والإعلاميين يمدونها بمعلومات في منتهى الدقة. والمعروف عن هذه الأجهزة أنها تتذرع بحجة اهتمامها بالمشكلة الإسلامية لكي تمارس تأثيراتها السياسية والاجتماعية الضاغطة في مجالات أخرى. وهي لا تكتفي بوضع أعينها على الأصوليين لكي تستبق ما قد يشكل تهديدا لأمنها، بل تراقب النخب الدينية المغاربية والإفريقية لمجرد أنها من أصول إسلامية. ولذلك نجد عددا من هؤلاء يخضعون بشكل دائم لاستجوابات وتحقيقات لا نهاية لها عن أنشطتهم وارتباطاتهم داخل وخارج فرنسا. وعمليات الاستنفار والمراقبة التي تقوم بها الاستخبارات الفرنسية تواكبها تحركات موازية تقوم بها البلدان المغاربة (المغرب تونسالجزائر) في سعيها لرصد أنشطة مواطنيها ومن ثم الهيمنة على المؤسسات الإسلامية. فإلى جانب تمويلها للمساجد الكبرى، تصر هده الدول على أن يكون لها نفوذ كبير على الشأن الديني بشكل عام. وبالرغم من أن الجزائر تحتل الريادة في مجال المراقبة الفكرية والسياسية لمواطنيها، إلا أنه لا يمكن مع ذلك إغفال الدور الذي تقوم به الدول المغاربة الأخرى ومعها تركيا. فهده الدول تعمل هي الأخرى على تمويل أماكن العبادة وتأطير الأئمة وتدبير الشأن الديني فوق التراب الفرنسي من خلال تغذية المساجد الفرنسية بأئمتها وعلمائها، فتوفدهم في أكثر الأوقات ملائمة وهو شهر رمضان، على ألا ينحصر دورهم في إمامة الصلاة، بل يشمل أيضا إلقاء دروس دينية في الوعظ والإرشاد، وهي دروس تقليدية في معظمها لا تتماشى مع واقع الحياة الإسلامية الفرنسية التي دخلت طورا جديدا أصبح معه من كانوا أطفالا قبل 15 أو 20 سنة، يتحدثون اليوم عن المواطنة والمشاركة السياسية، بل ويطالبون بكل الحقوق التي تكفلها الجنسية. وبالرغم من أن دخول المخابرات المغاربية في اللعبة قد يبدو تدخلا في الشؤون الفرنسية، إلا أنه يشكل نفعا كبيرا لفرنسا التي قد تستفيد من أمرين : من العمليات الاستخباراتية التي تقوم بها البلدان الأصلية على الأراضي الفرنسية لدرء خطر الأصوليين، ومن التأطير غير المباشر للمنظمات الإسلامية في التراب الفرنسي.