جعل الله تعالى فرض الزكاة وتحريم الربا من أهم دعائم الإسلام وركائزه في قلوب المسلمين، أفرادهم ومجتمعاتهم، فقد فرض سبحانه الزكاة، وحرَّم الرِبا، ليحرر الفقراء من عبودية المال، والأغنياء من بطرهم وشرهم، ففرض الزكاة، وحرمة الربا تحطيم لأغلال الفقراء، وتحرير للأغنياء من ذل المال وأَسْره. وخزائن رحمة الله في ملكه وملكوته واسعة لا تفنى ولا تنفدُ دخائرها، يرزق من يشاءُ بغير حساب، كل الأموال التي يتداولها الناس، هو سبحانه الذي رزقهم إياها من فضله، فالمال مالُ الله، جعله بين أيدي الناس قِوما، فقراء وأغنياء، وقد فضل بعض الناس على بعض في كل الأرزاق، لا ليكون منهم الغني البطر الجشع، ولا الفقير المعدم الذليل الخانع.. إذ المال دائما مال الله، وكل الخلق عيال الله، وهذا المال المتداول بين أيدي الناس فقرائهم وأغنيائهم، إنما هو لتحقيق مصالحهم جميعا، ومنافعهم جميعا، ولخدمتهم في معاشهم ومعادهم، أغنياء وفقراء، ولهذا فرض الله تعالى على عباده الزكاة، وحرم الربا في دينه الذي لن يقبل منهم غيره. الزكاة حق من حقوق الله في أموال القادرين على أدائها، وقد قضى سبحانه وحكم أن تكون حقا للفقراء والمساكين، وكل من يدخل في حكمه وقضائه بها لهم، وجعلها أنصبة معلومة، ومقادير محددة، تؤخذ من الثروات المتداولة والمدخرة، ومن أموالهم الرائجة في معاملاتهم التجارية... وقدرها فيها: ربع العشر، 2,5%، ومن غلات الأراضي، حبوبها وثمارها وقدرها فيما يسقى بالكد والجهد 5%، وفيما يسقى مما ينزل من أمطار، أو يجري من جداول وأنهار بفضل الله 10%، وتؤخذ أيضا مما تدره المناجم بقدر 20%.. أما المواشي والأنعام فإن مقادير ما يؤدى عنها من زكاة باختلاف أعدادها وأنصبتها وأنواعها... ويسأل عنها من لا يعلم أهل الذكر... الزكاة حق معلوم في مال الغني لمصلحة الفقير والمحتاج.. حق حدده الله وفرضه، ليرفع عن الغني ذل عبادة المال، وليرفع عن الفقير خنوع الحاجة وكفرها، فقد كاد الفقر أن يكون كفرا، إن لم يؤد إلى الكفر فعلا.. الزكاة فريضة اجتماعية إلزامية، وليست فقط من قبيل ما تعارف عليه الناس، وتواضعوا على تسميته: (الإحسان)، إذ (الإحسان) أوسع من ذلك وأشمل وأكمل وأجمع وأجمل... فإن المفهوم المتداول اليوم بين عامة الناس عن (الإحسان) قد ضيق معناه وابتذله، إن لم يكن قد شوهه وأفسده، فإعطاء المتسول الملح أو المحترف ليس إحسانا فالتسول الملحف الملحاح احترافا يذل إنسانية الإنسان المكرم المفضل المرزوق، فهو حرام حرام، إلا في حالة واحدة ويستحيل في رأيي وجودها في وطننا المسلم الأبي الكريم، وهذه الحالة هي الحاجة الملحة، من الفقر المُدقع، والجوع المُضْني، اللذين يكادان يؤديان بصاحبهما إلى الهلاك... فلمن كانت هذه حالته أن يسأل الناس ليدفع عن نفسه غائل ما هو فيه من فقر مدقع، أو جوع مُضْن... على ألا يتخذ التسول حرفة وعادة.. فالمتسول الملح الذي يسأل أكثر مما يسد حاجته، يُبْعثُ يوم القيامة وليس في وجهه مُزعة لحم، لأنه أضاع كرامته الإنسانية، وأساء إليها، بسؤال الناس ماهو في غير حاجة ماسة إليه. ولكن يبقى دائما أن علينا أن نعلم أن المرء المسلم الذي يبيت شعبان ريان، مكسوا دافئا غير عريان ولا بردان، وهو يعلم أن أخاً له أو مواطناً في ضائقة تخنقه، ولا يعينه على الخروج منها، ففي إسلامه دخل والعياذ بالله. والزكاة ليست صدقة تطوعية متروكة لاختيار الفرد وتبرعه، فهي ركن من أركان الإسلام الخمسة، فهي إذن إلزامية إجبارية، قد اضطر المجتمع المسلم في الصدر الأول للإسلام إلى إعلان الحرب على ما نعيها وعدهم مرتدين. والزكاة قال عنها أحد علماء المسلمين (محمد المبارك رحمه الله): «شاملة لكل مال نامٍ، أو قابل للنماء، كرؤوس الأموال التجارية مهما يكن نوعها، والنقود، والمنتجات الزراعية، والمواشي... وهي دورية: سنوية أو موسمية، وهي تجب على من يملك حدا معينا (وهو ما يسمى بالنصاب) من المال فأكثر، ويُعفى من يملك أقل منه، وهي بالنسبة للمسلم عبادة من العبادات يأثم إثما عظيما من يتركها». والزكاة ليست ضريبة من نوع الضرائب المعروفة في عصرنا هذا، فالضرائب هي حق في المال غير الزكاة، وأهم فرق بين الزكاة والضريبة هو أن الزكاة عبادة فرضها الله تعالى، يدفعها المسلم المؤمن طيبة بها نفسه، لأنها تخرج من يده بإيمان صادق، في وجوهها ومصارفها التي حددها الله عز وجل.. وغايته منها أولا وقبل كل شيء هي مرضاة الله تعالى، ونيل الأجر والثواب منه وحده والفوز بجنته، والنجاة من عذابه...والزكاة قرينة الصلاة، وقد أكد لنا العالم الفقيه (محمد أبو زهرة رحمه الله) أنه: «... ما من آية قرآنية كان فيها الأمر بالصلاة إلا وكان الأمر بالزكاة مقترنا بها، وسميت (زكاة) لأنها تزكي المال والنفس والمجتمع، ولذا قال تعالى: «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها...»، فالزكاة تطهر النفس من شحها، والمجتمع من أدرانه، وتزكي النفس والمال وتنمي المجتمع... وقد اجتهد فقهاء كبار، فأكدوا أن الزكاة تجب في العمائر والصناعات باعتبار أنها تدخل في الأموال النامية، متخذين القياس الفقهي سبيلا للاستنباط فرسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قد قرر أن الزكاة في الأموال المنقولة تؤخذ من رأس المال بمقدار 2.5%، وأما في الأموال الثابتة، فإنها تؤخذ من الغلة، وبما أن العمائر المشيدة والمصانع أموال ثابتة، فإن الزكاة تؤخذ من غلاتها، وقد فرض النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم العشُر فيما يسقى بالمطر أو السيّح من غير آلة أو جهد، ونصف العشُر فيما يسقى بجهد وآلة، فإن تطبيق هذا المبدإ في المصانع والدور يكون بأخذ عشُر الصافي، بعد النفقات، وهذا ما قررته حلقة الدراسات الاجتماعية التي انعقدت في دمشق في دجنبر سنة 1956م، وأوصحت به الدول العربية، ولاشك أن أرباب المصانع من المؤمنين في وطننا الحبيب يدفعون زكواتهم، وكذلك أصحاب الشركات والمساهمين فيها يدفعون زكواتهم من أسهمهم فيها ومن غلاتهم التي تؤول إليهم منها، وفي تجارة أسهمهم التي يتاجرون بها، فكل ذلك نوع من الأموال الثابتة والمنقولة وعروض التجارة التي تجب فيها الزكاة بعد حلول الحول على تملكها، وطبعا عن أصولها وما زاد على تلك الأصول... وأما مصارف الزكاة فتحددها هذه الآية الكريمة: «إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل...»، فسر العلماء (الفقراء) بأنهم الذين لايملكون نصاب الزكاة، أو لا يملكون ما يكفي حاجاتهم الضرورية، وفسروا (المساكين) بأنهم الذين لايستطيعون كسب ما يكفيهم إلى حد أن أذلتهم الحاجة الملحة وأضرت بهم فدفعتهم إلى ذلة السؤال... و(العاملون على الزكاة) هم جامعوها، والقائمون على إدارتها وتصريف شؤونها.. (وفي الرقاب) أي في تحرير أسرى المسلمين والمستعبدين منهم، لرد حريتهم إليهم وعتقهم من العبودية... و(الغارمون) هم الذين أثقلت الديون كواهلهم، وعجزوا اضطرارا عن أدائها لأصحابها، على ألا يكونوا قد سقطوا في الديون سفها وإسرافا وتبذيرا، بل لمصلحة خاصة، أو إصلاح بين الناس...و (في سبيل الله) أي للجهاد في سبيل الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وإعلاء كلمة الله، والدفاع عن حوزة المسلمين بغير ظلم ولا اعتداء.. و (ابن السبيل) هو المنقطع عن أهله ووطنه وليس له مأوى يأوي إليه، ولا مال يستند إليه ليسد عوزه... و (المؤلفة قلوبهم) هم المرجوون بتأليف قلوبهم ليدخلوا في الإسلام اقتناعا لا إكراها، واختيارا لاترغيبا بالإطماع ولا ترهيبا بالإفزاع.. إذ لا إكراه في الدين... وأوضح مثل لهم اليوم هو الجائعون من المسلمين وغيرهم في إفريقيا وغيرها من أنحاء العالم، لإنقاذهم من الصليبيين الذين يستغلون جهلهم وجوعهم لإدخالهم بالإرغاب والإرعاب في دينهم الباطل... وليذكر المسلمون دائما أن الجوع كافر، وأنه كاد أن يكون كفرا.... والحمد لله رب العالمين