كأن الثورة لم تقم في سوريا، وكأن ثلث مليون قتيل لم يسقطوا، وكأن الرئيس بشار الأسد لم يرتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ولم يقصف شعبه بالبراميل المتفجرة ولم يقتله بالسلاح الكيماوي، وكأن النصف من التراب السوري لم يخرج عن سيطرة النظام. فقد عاد الوضع إلى ما كان عليه قبل انطلاقة الانتفاضة السورية السلمية التي ما لبثت أن تحولت إلى ثورة مسلحة ضد النظام الديكتاتوري، وأظهر العالم عطفه على الرئيس بشار، وصارت الدول الكبرى تشترط بقاءه في سدة الحكم لإيجاد تسوية سياسية يقولون إنها لن تتم إلا بوجوده حتى لا تنهار الدولة ومؤسساتها، وكأن الدولة لا تزال قائمة في سوريا، وكأن النظام لم يفقد شرعيته بشهادة الكبار الذين صرحوا مرارًا أن على بشار الأسد أن يرحل. فماذا حدث إذن في سوريا حتى تقع هذه التحولات الدراماتيكية في السياسة الدولية بخصوص الأزمة السورية؟. هل عاد السلام إلى المنطقة؟. وهل عاد إثنا عشرة مليونًا من المهجَّرين نازحينَ ولاجئينَ ومشردينَ في دول العالم إلى وطنهم؟. هل تغير النظام الحاكم في سوريا؟. أم هل اكتشفت الدول الكبرى أنها كانت تبني سياستها على قواعد واهية، وأن الوقت قد حان للتعامل مع الحالة السورية بواقعيةٍ أكثر وبفكر سياسي جديد؟. فما هو هذا التغيّر الحاسم الذي وقع وكان من تداعياته إعادة إنتاج النظام السوري، وردّ الاعتبار للديكتاتور بشار الأسد؟. لا شيء من ذلك كله قد حدث، وإنما التحوّل الجديد والمثير للاستغراب في المسألة السورية برمتها، هو دخول روسيا على الخط بقوة، بحيث استطاعت أن تفرض رؤيتها لإيجاد تسوية سياسية للأزمة السورية على الولاياتالمتحدةالأمريكية، وعلى الدول الكبرى معها، وتلزمها بالعدول عن سياستها السابقة حيال النظام السوري، وبالقبول ببقاء الرئيس الأسد حاكمًا بأمره يبطش بمن تبقى من الشعب السوري فوق الأرض السورية. فروسيا اليوم هي الماسكة بزمام الأمر كله، وهي القوة الباطشة على الأرض لحماية النظام، ولحشد التأييد الدولي لبقاء بشار الأسد باعتبار أنه الرقم الصعب في المعادلة السورية. وقد فرضت روسيا سياستها هذه على العالم، وربما ستتقدم إلى مجلس الأمن بمشروع قرار لتقنين هذه السياسة بإصدار قرار دولي ملزم، يكون هو القاعدة القانونية للتسوية المنتظرة للأزمة السورية تون روسيا هي الرقم الأول في معادلتها. يبدو أن الرئيس الروسي بوتين يلعب بمهارة فائقة، وقد كسب إلى جانبه الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وحصل بينهما توافق حول الحالة السورية. ويسعى الرئيس بوتين إلى إقناع المملكة العربية السعودية بخطته التي فرضها على الكبار، والتي قبلتها تركيا التي صرح رئيسها بأن بشار الأسد يمكن أن يكون له دور في الجهود التي ستبذل لتسوية الأزمة في سوريا، وهو الذي كان بالأمس القريب يقول برحيل بشار الأسد. وهذا تحوّل في السياسة التركية لا يمكن أن يتم إلا بإيعاز من واشنطن. ولذلك يتوقع أن يُعلَن قريبًا عن تحول مماثل من الأطراف العربية. وبذلك يكون المسرح قد أُعدّ لروسيا، والطريق نحو استمرار الأسد في منصبه قد تم تمهيده، والرئيس بوتين قد استعاد المكانة التي كانت للاتحاد السوفياتي المنهار، إن لم يكن بنفوذ أكبر مما سبق. وتلك هي البداية للحقبة الروسية، ليس في الشرق الأوسط فحسب، بل على المسرح الدولي. وسيكون القرار المنتظر من مجلس الأمن الانطلاقة الرسمية لهذه الحقبة التي ستعرف تحولات عميقة وشاملة في السياسة الدولية بخصوص الأزمات المتراكمة في منطقة الشرق الأوسط. إن الرابح الأول من بقاء نظام بشار الأسد هو إسرائيل. ولقد كان جديرًا بالانتباه، لمن يتابع الملف السوري، الزيارة التي قام بها أخيرًا رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى موسكو مصحوبًا برئيس الأركان ومدير الاستخبارات، ولقاؤه الذي دام ساعات مع الرئيس بوتين بعد الإعلان عن تكثيف روسيا لوجودها العسكري في سوريا. فقد حرصت إسرائيل على أن تكون في الصورة، وأن تطمئن إلى أن كثافة الوجود العسكري الروسي على حدودها الشمالية لن تؤثر في سياستها التي تعتمدها إزاء النظام في سوريا، ليس في عهد بشار الأسد فحسب، ولا في عهد والده حافظ الأسد فقط، وإنما منذ وصول حزب البعث إلى الحكم في سنة 1963. فالخطة الروسية التي أقنعت بها العالم، لن تكون لها انعكاسات على السياسة الإسرائيلية التي تحمي النظام في سوريا بطرقها الخاصة، وتعمل في اتجاه الدفع بالقوى العظمى نحو هذا التوجّه. وهو الأمر الذي تحقق فعلا ً، وإن كان بإخراج مختلف، وعلى يد الرئيس بوتين الذي بدا وكأنه يسير في ركاب إسرائيل مثله مثل نظيره باراك أوباما. فهل هذا الاستنتاج يجافي الحقائق على الأرض؟. وهل هناك من تفسير آخر لما يحدث اليوم في الساحة الدولية، خصوصًا في الجوانب المتعلقة بالحالة السورية؟. إن الرئيس بوتين الذي سَانَدَ النظام في سوريا منذ انطلاق الانتفاضة السلمية في سنة 2011، يقف خلال هذه المرحلة إلى جانب بشار الأسد المجرم، غير مهتم بالجرائم الفظيعة التي ارتكبها، ولا يزال يرتكبها، في حق الشعب السوري. فليمضِ هذا الشعب إلى الجحيم، ولا عبرة لحقوق الإنسان، ولا قيمة للقانون الدولي، والمجد للقوة لا للحق. هكذا يفكر الرئيس بوتين الحليف الأكثر قوة والأشد بطشًا لبشار الأسد. لقد أخذت موسكو زمام المبادرة لمعالجة ملف الأزمة السورية، وفرضت رؤيتها على خصومها قبل حلفائها، وكسبت توافقًا بينها وبين واشنطن حول سوريا، وجعلت الكبار يبدون ليونة تجاه رحيل الأسد، وأقامت حجتها على أساس أن التحالف الدولي بقيادة الولاياتالمتحدة لمحاربة داعش قد فشل، وأن الوقت قد حان لتشكيل تحالف جديد بغطاء من مجلس الأمن الدولي تنخرط هي فيه، ويكون للقوات السورية النظامية حضور في هذا المشهد الدولي، وذلك لمحاربة الإرهاب الذي سيكون في هذه المرة، هو تنظيم ما يسمى الدولة الإسلامية، وجميع التنظيمات والمجموعات المقاتلة التي تحارب النظام السوري. وبذلك سيتم القضاء على كل ثائر يحمل السلاح في وجه هذا النظام المجرم لتأمين الحماية له. فلن تكون محاربة داعش هي الهدف الأول، ولكن حماية نظام بشار الأسد هو الهدف الاستراتيجي. وربما يمكن القول إن محاربة داعش ليس إلا وسيلة لحماية النظام الذي يحمي بدوره إسرائيل، ويوفر فرصًا ثمينة لروسيا لفرض وجودها في المنطقة التي يبدو أن الولاياتالمتحدة قد عزمت على الرحيل عنها. والمحصلة النهائية من هذا التغير الذي تقوده روسيا، هي ضياع الشعب السوري المقيم على أرضه فوق حراب النظام، والنازح واللاجئ والمشرد في بقاع الأرض، وسقوط المبادئ وحقوق الشعب وفي الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وبقاء هذا النظام المجرم يعربد في المنطقة، وينشر الرعب، ويجمع من حوله الدواعش من كل صنف. فهل سيدخل هذا الإقليم المضطرب أنفاقًا مظلمة أخرى في رحلة نحو المجهول؟. إن ما يجري الآن في سوريا هو انتهاك صارخ لميثاق الأممالمتحدة وللإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لا من طرف النظام فحسب، بل من طرف روسيا ومَن دخل معها في توافق مشبوه، يقلب المعادلة ويُعيد إنتاج نظام بشار الأسد.