1- وضع الله أسس حقوق الإنسان، وأرسى أركان واجباته، من قبل إن يجعله عند بدء خلقه خليفة في الأرض لعمارتها وزينتها، بالعلم النافع، والعمل الصالح... ولن تعمر الأرض، ولن تتزين، ولن تأخذ زُخرفها، إلا بقدرة الإنسان على ذلك، بتعارف الأمم والشعوب وتوادِّها وتراحمها وتكافلها، وبفضل الله عليه بذلك... فالإنسان خليفة في الأرض، يباهي به الله الملائكة الكرام: «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة...» وحين تساءلت الملائكة، وهي تخشى الفساد وسفك الدماء... قال العليم الخبير سبحانه: «إني أعلم ما لاتعلمون» (البقرة: 29). 2- ومن علمه سبحانه: «علم آدم الأسماء كلها» مما لم تقدر الملائكة على ذلك، لأنها لم تُسخَّر لذلك، بعلم الله وبحكمته، واستطاع آدم عليه السلام ذلك، قال الله تعالى: «إني أعلم غيب السموات والأرض...» (البقرة: 30 - 32-31 )... 3- بهذه الخلافة، وبهذا العلم، وبهذه الحكمة، أراد الله تعالى من الإنسان أن يعبده، وأن يعرفه... ولهذا خلقه سويّاً في نفسه، قويما في خلقه، مستقيما في خلقه.. وخلق كل شيء له في الأرض والسماء: «ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون. الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم» (البقرة: 21-20). 4- الإنسان خليفة في الأرض لزينتها حسا ومعنى، بإقامة شعائر الله وتطبيق منهجه تشرعا وتشريعا، بنفع خلق الله جميعا، ودرء المضار عنهم جميعا.. لهذا كرم الله تعالى جميع بني آدم، فالآدمية تكريم، والإنسانية صفة مدح وكرامة... يتساوى في ذلك كل إنسان، مهما كان لونه، أو عرقه، أو موطنه.. يتساوى فيهما الذكور والإناث، إذ هما من نفس واحدة، زوجان كريمان... ونسل هذا الإنسان.. ذكوره وإناثه سواسية كأسنان المشط، لافضل لإنسان على أخيه. بينهم أرحام وشيجة تربط بينهم وتوحدهم، وهم مسؤولون عنها أمام الله وأمام إنسانيتهم: «ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا»(النساء: 1). 5- وما خلق الله الناس للتناحر والتنافر والتدابر، بل خلقهم للتعارف والتآلف... والعبادة المطلوبة منهم هي أن يتعارفوا فيه وبه وله.. وتلك حقيقة تقواهم: «ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير». (الحجرات: 13). وجودهم للتقوى بهذا المفهوم. كرامتهم بالتقوى بهذا السلوك... تقواهم سلم، عبادتهم أن يمشوا بين الناس هيّنين لينين معرضين عن الجاهلين... يعفون ويصفحون ويسالمون: «وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاما» (الفرقان: 63). 5- ليس في قلوبهم غل ولا شحناء ولا شنآن.. يعدلون ويُقْسطون حتى مع الذين يُبدُون لهم العداوة والبغضاء، وتلك حقيقة تقواهم، وذاك تطبيق إيمانهم عقيدة وسلوكا: «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنَّكم شنآن قوم على ألاَّ تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون» (المائدة: 9). وليس عليهم أن يكفر من كفر، إلا إذا اضطرَّهم باعتدائه إلى الدفاع عن أنفسهم ومقدساتهم وحرماتهم: «أُذِنَ للذين يُقاتلون بأنهم ظُلِمُوا وإنَّ الله على نصرهم لقدير» (الحج: 39). والاعتداءُ والظلمُ من الإنسان على أخيه الإنسان، هو غصْبُ ماله، هو هَتْكُ عِرضه، هوسفُكُ دمه، هو إهدارُ صحَّته، هو الاستهزاء بدينه، هو القدْحُ في إنسانيته، واحتقارُ آدميَّته.. فكل ذلك مس بكرامته فردا كان أو جماعة، وأسوأ ذلك وأقبحُه هو استعباده واسترقاقه واستغلاله واحتلال أرضه ووطنه، أو إخراجه منهما، وقد أراد الله لنا أن نُدافع عن كل ذلك، ووعدنا بالنصر، وهو قادر عليه سبحانه، في غير ظلم مِنَّا ولا اعتداء، في أي زمان ولا مكان، وبلا أي تبرير مُختلق ملفَّق، فكانت الآية الموالية للآية التي سبقت هي قوله عز وجل: «الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربُّنا الله ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهُدمت صوامعُ وبيعٌ وصلواتٌ ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصُرنَّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز» (الحج: 40). والصوامع أبنية كان رهبان النصارى وعُبَّاد الصابئين يتخذونها للتَّعبُّد، وهي أبنية عاليةٌ يتخذها المسلمون اليوم لإعلان الأذان لصلواتهم، وأما البِيَعُ فهي جَمْع بَيْعَة وهي كنيسة النصارى. والصلوات هي أماكن صلوات اليهود، وأما المساجد فهي للمسلمين... ولا يحق لأحد أن يعتدي عليها بهدم ولا نقضٍ، ولا أن يمنع أهلها من التعبد فيها... ولا أن يغصِبها منهم ليُحوِّلها إلى متعبد أو مصلى لأهل أي دين آخر إلا بالعِوضِ ورضاهم وأداء حقوقهم إليهم بالعدل والقسط والبرِّ... ولو كانوا شانئين حاقدين... فلا يُجيزُ الله تعالى ولا يرضى الاعتداء والظلم والجَوْر حتى مع الشَّانِئين المُعْتَدين «... ولا يجْرِمَنَّكم شنآن قوم أن صَدُّوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب» (المائدة: 2). وشدَّةُ عقابه سبحانه هي لأهل الإثم والعدوان، الذين يتجاوزون العدل والقِسط في ردِّ الإثم والعدوان... ويحسبون أنهم يدافعون عن أنفسهم ومُقدَّساتهم... وأنهم بذلك في سبيل الله، والله عز وجل يُبين لهم : «يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السَّلم لست مومنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمَنَّ الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا» (النساء: 94). والتَّبيُّن هو التأكد والتثبت، فقد شق على النبي صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه وسلم أن يُقتل إنسان مسالم بريء، بل كان مسلما مؤمنا، بغير حق وبدون تبيُّن ولا تأكد.. وقد أنزل الله بسببه هذه الآية الكريمة، واعتبر من قتله أنه فعل ذلك يبتغي (عرض الحياة الدنيا).. وحمل رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ديته إلى أهله، ورد عليهم ما أُخِذ منه سَلْبا وغصْباً.. وقد دعا صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم على قاتله، فما عاش بعد ذلك إلا سبعا، ثم دفن فلم تقبله الأرض، ثم دفن فلم تقبله، ثم دفن ثالثة فلم تقبله، فلما رأوا أن الأرض لا تقبله ألقوه في بعض تلك الشعاب، وقال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: «إن الأرض لتقبل من هو شر منه». قال الحسن: أما إنها تحبس من هو شر منه، ولكنه وعظ للقوم ألا يعودوا (ص 189/288) من الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي رحمه الله - المجلد الثالث - دار الفكر). 7- وكرامة الإنسان، وحقوقه على كل إخوته من بني الإنسان، لا تُحَد عند جنس دون جنس، ولا أهل لسان دون أهل الألسنة الأخرى، ولا أصحاب لون دون أصحاب الألوان المُغايِرة... فكلهم لآدم، وآدم من تراب... وكلهم سواء عند الله كأسنان المشط وكرامتهم عنده بالتقوى فقط، والتقوى محلها القلب، ولا بجاه ولا مال ولا سلطان ولا قوة ولا حسب ولا نسب... الكل من تراب... والكل لأب واحد هو آدم، ولأم واحدة هي حواء والكل من نفس واحدة... والكل بشر ينتشرون ليعْمُروا الأرض ويُزيِّنوها بحضارة المودة والرحمة والسلم والأمن... والكل من آيات الله على اختلاف ألسنتهم وألوانهم: «ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين» (الروم: 22). ولا فضل للون على لون، ولا للسان على لسان، ولا لعرق على عرق... الحقوق واحدة موحدة، والكرامة الإنسانية تظلهم جميعا... وكل اعتداد لفرد أو لجماعة بلسان أو لون أو بأصل فإنما هو من حمية الجاهلية، ولا يجعل حمية الجاهلية في قلوبهم إلا الكافرون بربهم وبإنسانيتهم وحمية الجاهلية هي: الإصرار على جهلها، جهل العلم وجهل الحلم، والعُتُو إلى العماء والسقوط في المهاوي السخيفة من الهرج والمرج وجحود الحق والإصرار على الباطل... وذلك هو الظلم الصراح للنفس والناس... بالاستخفاف بالناس والإفك عليهم، وقد قال الله تعالى عن هذا النوع من البشر: «... إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية...» وأما أهل الإيمان: «فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما»(الفتح: 26). والسكينة هي الأمن والطّمأنينة والاستقرار والوقارُ في النفس والمجتمع، وهي الإنسانية الحقّة في كل ما يزينُها ولا يشينها، في كل حين وعلى كل حالٍ... 8 وقد ذكر الإمامُ الشعراني في كتابه القيم (لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمدية) ص: 489: «أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أن لا نتعاطى أسباب الأذى للناس..». وقد قال الله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة» (البقرة: 208). والسلم: السلامة من كل شرّ وضرّ ماديين أو معنوييْن، والبُرْءُ من كل ألم وسقم... والخلاص من كل داءٍ وبلاءٍ... والسّعْيُ بكل إخلاصٍ وأمانةٍ بقدر الوسْع والاستطاعة لتخليص الإنسانية من كل ذلك، بإشاعة الأمن والتصالح... والتبرّؤِ من كلّ ما ومن يسيءُ إلى إنسانية أيّ إنسانٍ... ومن أسوأ ما يسيءُ إلى السّلم وإلى إنسانية الإنسان إكراهُه على غير دينه بالعنف والعسْف والقهر، وقد قال الله تعالى في ذلك: «لا إكراه في الدين...» (البقرة: 256) أيّ دين... وقد خاطب سبحانه وتعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: «إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطانٌ وكفى بربك وكيلا» (الإسراء: 65). وفي سورة يونس الآية 99: «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مومنين» وقد ذكر الإمام الشعراني رحمه الله في كتابه المذكور سابقا (ص: 332) أنه أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أن نكون رحمة بين العباد، وميزان عدالة بين الناس، لا نحيفُ على واحدٍ دون آخر.... وأكبرُ الحيف إكراه الناسِ على غير دينهم... وأرحم الرحمة أمرهم بالمعروف ونهْيهم عن المنكر ودعوتهم إلى الحق بالإقناع والحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن... ومن الرحمة بالعباد وحسن دعوتهم العطف عليهم والرفق بهم والتصدق عليهم، مسلمين وغيرهم، فقد قال الله تعالى: «ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خيرٍ يوفَّ إليكم وأنتم لا تُظلمون» (البقرة: 272). وهذه الآية قال عنها الشهيدُ سيد قطب رحمه الله (في ظلال القرآن المجلد الأول ص: 314): «روى ابن أبي حاتم رحمه الله بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أنه كان يأمر بألاّ يتصدّق إلا على أهل الإسلام، حتى نزلت هذه الآية: «ليس عليك هداهم... إلى آخرها». فأمر بالصدقة بعدها على كلّ من سألك من كل دين... 9 تلك لمحاتٌ من حقوق الإنسان في الإسلام، وومضاتٌ من كرامة كل إنسان عند نبيّ الإسلام... وذاك ما نص عليه القرآن الكريم كتاب الإسلام، حيث يقول رب العزة جل وعلا: «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطّيبات وفضّلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلا» (الإسراء: 70) الإنسان مخلوقٌ له عند الله كرامة، ويجب أن يكون له عند إخوته، شرفٌ وفضلٌ، خلقه الله سويّا ذا حسنٍ وبهاءٍ، له قصدٌ وتدبيرٌ، وعقلٌ ووعيٌ وإرادة وتفكيرٌ، وبيانٌ ونطقٌ وتعبيرٌ... علّمه الله كلّ ذلك. وعلّمه الخطّ والكتابة والتسطيرَ.... فضله الله على كثير من مخلوقاته بالتّسخير، وبالثواب والجزاءِ والحفظ والترويض والتسيير... ومن تفضيله أنه أمر ألا يؤذي مخلوقا أيّا كان، إلاّ لنفع أو دفع مضرّةٍ.. وإذا قتل أحسن القِتلة، أو ذبح أحسن الذّبحة... لغير عبثٍ أو لهوٍ أو لغوٍ أو تشفّ أو تلذُّذٍ بالتعذيب. مما يفعلُه بعض مرضى النفوس والقلوب... فقد قال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: «لا تُنزع الرحمة إلا من شقي» (أبو داود). ومن رحم مخلوقا كان في رحمة الله» (الحاكم). وقد صح أنه صلى الله عليه وآله وصحبه قال: «إن رجلا دنا من بئرٍ فنزل وشرب منها، وعلى البئر كلبٌ يلهثُ، فرحمه فنزع أحد خفَّيْهِ فسقاه فشكر الله له ذلك فأدخله الجنة» (البخاري ومسلم). والحمد لله رب العالمين