تبنى المجلس الأعلى للإعلام السمعي البصري الفرنسي أول أمس قانونا جديدا يضبط حلقات وحصص الظهور على التلفزيون بشكل متساوي بين رئيس الجمهورية والأغلبية الحاكمة والمعارضة. وسيتم بموجب هذا القانون الذي صادق عليه المجلس بالإجماع، وسيدخل حيز التنفيذ ابتداء من فاتح مارس القادم، تطبيق مبدأ التعددية الإعلامية فيما يخص الحصص الزمنية المخصصة للشخصيات السياسية على أمواج الإذاعة وشاشات التلفزيون. وهكذا سيتم لأول مرة في تاريخ الجمهورية الفرنسية، احتساب جميع تدخلات رئيس الدولة باستثناء تلك المصنفة في قمة الأولويات الوطنية على غرار الخطب التي يلقيها أثناء زياراته الخارجية أو خلال استقبال الشخصيات الدولية. وما عدا ذلك، فإن جميع تدخلاته المرتبطة بالنقاش السياسي الوطني العام والخيارات السياسية العامة داخليا وخارجيا، ستُخصم من الحصص الزمنية المخصصة له، والمحددة في 50% للرئيس، و50% للمعارضة والأغلبية الحاكمة. ويأتي النظام الجديد لتصحيح الاختلالات الزمنية التي كان رئيس الدولة يستفيد بموجبها من حصة الثلثين في الإذاعة والتلفزيون، والباقي يتم تقاسمه بين أحزاب المعارضة والحكومة والأغلبية البرلمانية. فمع حلول شهر مارس، ستحظى المعارضة بنصف حصة الرئيس وبنفس حصة الحكومة والأغلبية البرلمانية، وهو ما لقي استحسانا وترحيبا كبيرين من لدن حزب اليمين المعارض، الاتحاد من أجل حركة شعبية" الذي يرجع له الفضل قبل ثلاثة أشهر، في رفع شكاية عن طريق نائبه، ديديي نوزيا، للمجلس الأعلى للإعلام السمعي البصري حول "الاختناق الإعلامي" الذي يمارسه، على حد قوله، الرئيس فرانسوا هولاند واحتلاله وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية بشكل أصبح مفروضا على الشعب الفرنسي. وهو ما اعتبره أمرا غير دستوري يخرج عن مسار الديمقراطية. ويجمع الإعلاميون ومعهم أنصار الحزب الاشتراكي الحاكم على أنه خلافا لما يدعيه التيار اليميني، فإن الرئيس السابق نيكولا ساركوزي هو من كان يحتكر الإعلام الرسمي، وكان، برأيهم، أحد أكثر الرؤساء "حبّا في الظهور" في العالم. ومن فرط عشقه للإعلام، أنشأ له محطّة تلفزيونية خاصة تعرف ب "ساركو TV" وهو موقع إلكتروني يحتوي على أبرز محطّات حياته السياسية وخطاباته وحلقات ظهوره على التلفزيون فضلا عن مجموعة من الفيديوكليبات التي تمجّد إنجازاته. وقد اشتكى بعض الإعلاميين في الصحافة البصرية غير ما مرة من تخمة الظهور "الساركوزي" المفروض عليها، في غياب نصوص تلزم المجلس الأعلى للإعلام السمعي البصري تقليص حصة النشاط الرئاسي. فلم يكن يمر يوم واحد، حسب هؤلاء، دون أن يحل ساركوزي ضيفا على واحدة أو اثنتين من أهم القنوات الفرنسية ليضمن "الخدمة بعد البيع" لخطبه الأسبوعية، كما علق بسخرية الخبير الإعلامي، بيير بولين، رئيس "التجمع من أجل الديمقراطية بالتلفزيون" الذي كان قد دعا قبل سنة، مدعوما ببعض وسائل الإعلام، إلى تنظيم "يوم إعلامي بدون ساركوزي"، أي يوم خال من أية صورة أو خبر أو تعليق، إيجابيا كان أم سلبيا، عن الرئيس الفرنسي وتحركاته، وذلك من أجل مساعدة الفرنسيين على التخلص من ظهوره المكثف في وسائل الإعلام والذي يمثل، حسب التجمع، "خطرا على ديمقراطية الإعلام في فرنسا". وكان بيير بولين، وهو من كبار علماء الاجتماع الفرنسيين، يأمل في أن يفتح نداء "اليوم الإعلامي بدون ساركوزي" باب النقاش حول ديمقراطية الإعلام في فرنسا وسيطرة الشركات الممولة للقطاع، مع التطرق أيضا الى موضوع الهيمنة الرئاسية على السياسة الإعلامية العامة في البلاد و"تسخيرها" لتحسين صورة الرئيس أمام الرأي العام المحلّي والعالمي. وقبل أسبوع، خصصت جريدة /لوفيغارو/ الموالية لليمين، من جهتها، صفحتها الأولى لإثارة الانتباه إلى ما تسميه بعملية "الاختناق الإعلامي" التي يمارسها الرئيس هولاند من خلال تكييف أنشطته وتضخيمها حتى تبدو مادة أساسية لوسائل الإعلام. وتكرس أجندة الرئيس هولاند المكثفة حالات من النفور والتردد في أوساط الصحافة الرئاسية."لم نعد نتحمل طواف فرنسا الإعلامي الذي يرسمه هولاند ومعاونوه"، يقول بيرنار زكري، مدير التحرير بقناة "كنال بلوس" مضيفا، "بينما كان الرئيس شيراك يكتفي ببلاغات يختزل فيها النشاط الرئاسي مع قليل من التنقلات، وميتران يفضل العمل بشيء من التكتم، يطلع علينا كل من ساركوزي وهولاند بأجندتهما الواسعتين حبا في الظهور وسعيا إلى كسب نقط ارتكاز شعبية جديدة". والمعروف أن الرئيس هولاند يقيم شبكة علاقات قوية وكثيرة مع بعض كبار مديري ومالكي وسائل الإعلام الفرنسية من بينهم أرنو لاغردير، رجل الأعمال المعروف بتربعه على مملكة حقيقية من وسائل الإعلام المختلفة (باري ماتش، أوربا 1 ، لوموند، جورنال دو ديمانش، هاشيت..)، بالإضافة إلى صداقات أخرى قوية تربطه بمسئولي قنوات وبرؤساء تحرير يعملون في القطاع الحكومي. ويخشى المختصون في الإعلام المكتوب من أن يؤدي تراجع المبيعات إلى لجوء بعض الصحف للدوائر الاقتصادية النافذة كمتنفس مالي ضروري ولو على حساب كبح حريات الصحافيين وخدمة أغراض غير ذات صلة بالوظيفة الإعلامية. فإذا ما استمر التراجع في عمليات النشر، فإنه من غير المستبعد أن تقع الصحافة الفرنسية وخاصة منها الصحافة المرجعية تحت سيطرة عدد من الأباطرة وكبار رجال الصناعة وتجار الأسلحة مثل بويغ، وداسو، ولاغاردير، وبينو أرنو وغيرهم ممن يقيمون في ما بينهم أشكالا مختلفة من التحالفات قد تشكل خطرا على التعددية الإعلامية.