-1- الزمن هو أثمن ما يملكه الإنسان في حياة الدنيا. والزمن في الموسوعات العلمية، بعد فيزيائي رابع للمكان حسب نظرية النسبية الخاصة، هو وسيلة لتحديد وترتيب الأحداث بالنسبة لمعظم الناس. ربما يكون مصطلح الزمن الأعصى على التعريف، فالزمن أمر نحس به أو نقيسه أو نقوم بتخمينه، وهو يختلف باختلاف وجهة النظر التي ننظر بها بحيث يمكننا الحديث عن زمن نفسي أو زمن فيزيائي أو زمن تخيلي. لكن يمكننا حصر الزمن مبدئيا بالإحساس الجماعي للناس كافة على توالي الأحداث بشكل لا رجوع فيه، هذا التوالي الذي يتجلى أكثر ما يتجلى بتوالي الليل النهار وتعاقب الأيام فرض على الناس تخيل الزمن بشكل نهر جار باتجاه محدد لا عودة فيه (1). مع الأيام لاحظ البشر أن العديد من الظواهر الفيزيائية بدءا من حركات الشمس إلى تساقط الرمل من وعاء زجاجي إلى اهتزاز نوّاس بسيط تأخذ فترات زمنية متساوية حسب تقديرهم مما دفعهم لتطوير ميقاتيات وأدوات لقياس الزمن باستخدام هذه الظواهر فأوجدوا المزولة الشمسية ثم الساعة الرملية ثم ساعة النواس أو البندول. -2- في تاريخ الثقافة العربية، كان الزمن حاضرا باستمرار في أطروحات المثقفين الأقدمين، كانت المعلقات والحكم، تعكس بدرجات متفاوتة من الوضوح فلسفة الزمن وقياساته وانعكاساته على الحياة... وقد لاحظ باحث مغربي (أحمد السطاتي في أطروحته عن مفهوم الزمن في الفكر العربي/ 1980) أن زمن الماضي كان حاضرا باستمرار في وعي الإنسان العربي، يظل محمولا في ذاكرته، يعيد إنتاجه باستمرار، خلاف المستقبل الذي ظل محجوبا مغيبا لا مجال للكشف عن أسراره، إلا باللجوء إلى السحر والخرافة والأسطورة. وهو ما يعني أن الفكر العربي قبل ظهور الإسلام، بدل أن يحلل الواقع بالتحليل المعقول، لجأ إلى الخيال... ومن ثمة تحول الزمن للفاعلية والسيطرة وتحقيق مختلف الإمكانات، ليغدو مجالا للحكم والانفعال أكثر منه مجالا للفعل والفاعلية. لربما من أجل ذلك جاء القرآن الكريم، بمنظور مغاير للزمن، فهو في كتابنا المقدس، عنصر أساسي من عناصر بناء الذات على ضوء الهداية الربانية. فهو معبر ومخبر يمارس الإنسان من خلاله واجبات الدنيا والآخرة. في الثقافة المعاصرة، اتخذت مفاهيم الزمن طرقا أخرى في المعرفة، إذ اتجه اهتمام الباحثين وعلماء التربية والفلاسفة والعلماء المختصين، إلى تركيز "تربية الزمن" في نفوس الأطفال، بالروض والمدرسة، وإلى تعميق الشعور بأهميته في الدراسة والتكوين والترفيه، بهدف جعل وقت الناشئة، وقتا إنتاجيا، يساهم في تطوير الكفاءات الذاتية، لتصبح أكثر فاعلية... ذلك أن القيمة الأخلاقية والجمالية للزمن، في نظر العديد من الباحثين والفلاسفة والعلماء، يجب أن تظل حاضرة في الشعور الفردي للأشخاص بمحتواها وأبعادها داخل الضمير الإنساني، من المهد إلى اللحد... وهو ما أبرز إلى الوجود ما يطلق عليه في عالم اليوم "الوقت الثالث". الباحثون والعلماء، يقدرون للإنسان، إنه يمتلك ثلث وقته، أي الوقت الذي يبقى خارج أوقات العمل والنوم وضرورات الحياة، وهو الوقت الثالث، وهو يختلف بطبيعة الحال، من فرد لآخر، ومن شريحة إلى أخرى، باختلاف الأشخاص والأعمار والتكوين والبيئة والعمل والمستوى الاجتماعي والثقافي والاقتصادي... ويلحون على أن يكون هذا الوقت/ الثالث إنتاجيا على مستوى قيمته الأخلاقية والجمالية. -3- وفي الزمن الراهن، عرفت هذه المفاهيم الكثير من التغيير. الأسماء التي أصبح يحملها هي : ( الزمن المعلوماتي/ الزمن التقنولوجي) ومن خلالها أصبح الزمن يطرح نفسه بحدة كمفهوم/ كقضية أولا لأنه أصبح يرتبط بالعديد من الإشكالات والتساؤلات، وثانيا، لأنه (أي الزمن) أصبح أكثر من أي زمن مضى، ينعكس على قضايا الإنسان الفكرية والتربوية والثقافية والدينية والاجتماعية، ليتحول في النهاية، إلى إشكالية للتأمل والبحث والمقاربة والاستنتاج. إن الانفجار الاتصالاتي/ المعلوماتي، الذي يعتمد على الصور والرسائل والأرقام وغيرها من المنتوجات الإلكترونية، التي تنقل الزمن من قارة إلى أخرى بسرعة فائقة، على امتداد الكوكب الأرضي، جعل من السرعة الهائلة سمة لعصرنا الحديث/ عصر العولمة/ عصر التكنولوجيا/ عصر المعرفة، بل أن هذا الانفجار قلص المسافات، وألغى الحدود بين الزمان والمكان/ بين العلاقات البشرية/ بين المسافات الجغرافية، بين الثقافات والحضارات، وهو ما جعل إنسان الجنوب يعيش زمن إنسان الشمال، وجعل غرب الكرة الأرضية مكشوفا أمام شرقها. وجعل كل شيء يجري إنجازه ونقله في اللحظة ذاتها، خارج أي رقابة أو حدود... وهو ما شكل بعدا جديدا لمفهوم الزمن، ولمفهوم العالم. تتجسد مظاهر هذا الانفجار في نظر العديد من الباحثين المختصين في ملمحين اثنين: ثورة الاتصالات التي ألغت المسافات بين الأزمنة والأمكنة، وانفجار المعلومات التي غيرت بشكل صارخ حياة الناس وأنماط عيشهم وطرائق تفكيرهم وآلياتهم. والسؤال: أين موقعنا نحن المغاربة / نحن العرب / نحن العالم السائر في طريق النمو، من هذا الانفجار الاتصالاتي/ التكنولوجي...؟ من أجل الوصول إلى مشهد الزمن المعلوماتي الراهن، لابد لنا من توضيح بعض الأرقام والمقارنات التي طبعت الأزمان السابقة. قبل بداية الزمن الاتصالاتي (بداية العقد السابع من القرن الماضي) كان حجم المعرفة البشرية يتضاعف كل عشر سنوات، وأصبح يتضاعف مرة كل خمس سنوات، تم تطور الأمر في نهاية القرن الماضي، فأصبح حجم هذه المعارف يتطور كل سنة، وهو ما جعل البشرية تملك في نهاية كل عام كما من المعلومات يساوي ضعف ما انتجته في كل تاريخها السابق. -4- من الواضح أن التحولات الواسعة التي عرفها الزمن المعلوماتي/ الاتصالاتي الراهن، أصبحت تطرح على العالم المتخلف/ السائر في طريق النمو، طائفة من القضايا والمشاكل التي تحتاج بكل تأكيد إلى إعادة التفكير والتأمل فيها، والبحث عن أفضل الحلول لها لإنتاج تكنولوجيا لجمع ومعالجة وتوزيع المعلومات، وهو ما يبدو حتى الآن أمرا مستحيلا. نعم هناك تنافس بين البلدان المنتجة للتكنولوجيا تتصدره الولاياتالمتحدة واليابان، وبالأخص في إنتاج الأجيال الجديدة من الحاسبات، ثم إن بعض البلدان المنتجة أصبحت تعلن صراحة أن هدفها الأسمى، هو التخصص في صناعة المعلومات وتحويل الصناعات الثقيلة تدريجيا إلى بلدان العالم الثالث، و الاحتفاظ بالصناعات النظيفة والتخلص من الصناعات التي تسبب التلوث. السؤال الذي يطرح نفسه بقوة وصراحة علينا وعلى كل البلدان السائرة في طريق النمو، كيف لنا أن نواجه الزمن المعلوماتي، ونحن غير قادرين على إنتاج التكنولوجيا، وتنقصنا الأموال اللازمة لاستيرادها واستعمالها، بينما يستمر تركيزها في البلدان الصناعية وحدها. لا نبالغ إذا قلنا أن كل يوم يمر علينا، يزيد من حراجتنا في هذه القضايا لأن التطور التقني للوسائل الحديثة لم يعد يقاس بالسنوات بل بالأيام والشهور. الأقمار الاصطناعية بدأت تغزو العالم ببرامج التلفزيون والراديو. الهوائيات الصحنية أصبحت تتيح للمتسلم في أي بلد التقاط مئات القنوات و البرامج ونحن العرب، لا علم لنا بما تفعله بنا...وبزمننا. أما المظهر الآخر لهذا الاختلال فيتمثل في تركيز السيطرة على بنوك المعلومات، لقد أصبح إنتاج واختيار ومعالجة وخزن وبيع المعلومات من الصناعات المتميزة التي لا غنى عنها لأي بلد يريد التطور، ولكن وكما في كل صناعة أخرى، فإن البلدان المتطورة تملك كل المصادر التي تمنحها موقع السبق و الأفضلية. هذا الواقع أدى ويؤدي إلى وضع من التسيب والمفارقة بينها وبين بلدان العالم الأخرى، اذ نرى من ناحية أن المعلومات متوفرة والاتصال بشبكة بنوك المعلومات في أي وقت سهل وممكن. لكننا نرى من ناحية أخرى أن الحصول على المعلومات يعني شراءها ليس بالمال وحده...ولكن بتبادل المصالح والتنازل عن المواقف أيضا، وهذا بدوره يعني أن الدول غير المتطورة ينبغي ان تخصص في ميزانياتها وسياساتها ما يتوافق مع ذلك، إذا أرادت الاستفادة من المعلومات لأهدافها التنموية. -5- من المؤسف القول، إننا بقدر ما نوجد داخل زمن الانفجار المعرفي، نوجد خارجه، لأننا مع الأسف، مازلنا نعاني من فقر معلوماتي/ اتصالاتي، مدقع، مازلنا مستهلكين للمعلومات وأوعيتها بشكل سيء، ومازلنا نعاني من التبعية المطلقة لإنتاجية هذه المعرفة... نعاني من جهلنا ومن جهل قيمها الأخلاقية والعلمية. لاشك، أن علوم التكنولوجيا الحديثة، قد جعلت كوكب الأرض، نقطة محدودة/ مكشوفة في الزمان والمكان، وضعت للزمن مفهوما جديدا / مغايرا، جعلت الإنسان يعيش في اللحظة ذاتها زمانه الذاتي وأزمنة الآخرين الذين تفصلهم عنه مسافات الجغرافيا التي يتعذر الإمساك بها، بل جعلت الإنسانية جمعاء تعيش عالما يقترب بعضه من بعض، حتى بدأت قاراته ومحيطاته المتباعدة تلامس بعضها البعض، وهو ما يضع الإنسانية جمعاء أمام قدر جديد/ تاريخ جديد/ مفاهيم جديدة للزمن... لكن ذلك يفرض على الإنسان أن لا يتخلى بالإطلاق عن رؤاه الأخلاقية والتربوية للزمن. إن الزمن اليوم،بفضل التطور العلمي/ التكنولوجي،أصبح يعيد تشكيل الوجود داخل جوف التكنولوجيا، ولكنه لا يعيد تشكيل القيم لا داخل مفاهيم الزمن، ولا داخل مفاهيم الإنسان المحكوم بزمن محدد في حياته، وتلك مسألة تفرض علينا كعرب / مسلمين/ نؤمن بالتطور والتقدم. إعادة النظر في ثقافتنا... وفي مفاهيمها وقيمها وفي نظرتها للإنسان والكون . والسؤال المحير، متى وكيف لنا أن نفعل ذلك، والتخلف العلمي/ الحضاري/ الثقافي يحاصرنا من كل جانب ، ونحن خارج دائرة الزمن الذي كسر كل حدود بين الأنا والآخر... بين الكائن والممكن، داخل الكوكب الأرضي الواحد؟. إن الأمر هنا لا يتعلق بزمن العولمة. لا يتعلق بعولمة الزمن، ولكنه يتعلق بالتغيير الذي يجب أن يشمل مفاهيمنا للتربية والتعليم والثقافة والسياسة...ولكل القيم التي تحركنا من الداخل. أفلا تنظرون...؟ ---------------------------------- الموسوعة الحرة / وكيبديا سان خوسيه / اتجاهات العلاقة بين الثقافة والتقنولوجية / جريدة الشرق الأوسط 27 ماي 1994 ص 18.