ما الذي جعل وزير الاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة السيد مصطفى الخلفي ينقلب بكل هذه الحدة والمسافة على المسؤولين في قنوات القطب العمومي؟ سؤال يجد مشروعيته في سياق كثير من الأحداث التي توارت خلال الأسابيع القليلة الماضية. فإلى عهد قريب جدا كانت علاقة الوزير بغالبية المسؤولين عن هذه القنوات ... علاقة عمل، ولم يفتر حماس السيد الوزير لحظة واحدة في القول بأن دفاتر التحملات وفرت الوصفات الطبية المناسبة لجميع الأمراض المزمنة التي كانت تنخر جسد خدمة المرفق العمومي في الفضاء السمعي - البصري، ولم يتردد لحظة في الجزم بأن الاستشفافية وجدت أخيرا موقعها المناسب واللائق بها في التعامل مع شركات الانتاج، وتم القضاء نهائيا على جميع مناطق العتمة التي كانت تعيث فسادا في المال العام، ولم يخف الوزير اعتزازه بالآليات التي نصبت لترشيد مضامين الانتاج من لجان قراءة واختيار، ولم يتردد المسؤول الحكومي الوصي لحظة واحدة في الإشادة بالمسؤولين عن قنوات القطب العمومي وأوضح في هذا الصدد أنهم تعاونوا لتحقيق كل هذه المكاسب الوازنة. فجأة وبدون سابق إنذار وخارج سياق تطور الأحداث يرفع السيد وزير الاتصال الناطق الرسمي صوته عاليا من فضاء البرلمان منبها المغاربة الى أن نسبة كبيرة من اعلامنا العمومي مضادة للقيم الوطنية والدينية، مؤكداً أنه لايمكن للمغاربة أن يمولوا إعلاما يكون سببا في تفككهم وفي انحراف أبنائهم، وأنه لايمكن لمجرد موظف أن يقرر في مصير أخلاق المغاربة. إنه فعلا كلام جديد. يذكر الرأي العام الوطني بالأسابيع الأولى التي تولى فيها الأستاذ الخلفي مسؤولية وزير وصي على القطاع، قبل أن يقدم على ما يعتبره تحقيق مكاسب هامة جدا مكنت من توفير التربة المناسبة لاستنبات خدمة عمومية راشدة في مرفق إعلامي عمومي ناضج. من دفاتر التحملات وعقود البرامج وغيرها كثير. والمؤكد أن الجواب عن دواعي انقلاب الوزير عن السياق الذي كان يسير عليه طيلة أكثر من سنتين يوجد خارج توتر العلاقة بين المسؤولين عن القطب العمومي ووزير الاتصال. ولذلك وجب البحث في سياقات أخرى، وهنا لابد من إطلاق العنان للتحليل. ثمة احتمالات كثيرة، أولها أن الرجل أخذ من يده وجذب إلى مساحة أخرى غير تلك التي كان يشتغل فيها ويعتبر أنه بصدد مراكمة مكاسب هامة ستعود بالنفع على البلاد، والجهة التي جذبته ليست معنية بالمصلحة العامة للبلاد، بل هي تقدر أن ساحة الاعلام العمومي هي الساحة المناسبة للمواجهة. أولا لأنهاالحلقة الأضعف من حيث التذمر الشعبي، وثانيا لأنهم ينظرون على الاعلام العمومي من الوجهة السياسية المحضة، وليس المهنية. إن الخلفي أثبت قدرة فائقة على التحمل في ظروف صعبة جدا، وامتلك شجاعة إدارة الخلاف مع مخالفيه في الكثير من المواقع وكان كل مرة يسل الشعرة من العجين، لذلك فإن المواجهة ليست من منهجية الرجل الهادئ. الخوف كل الخوف من الاحتمال الثاني الذي يؤشر على وجود خيط رابط بين خرجة وزير الاتصال والمحاولات التي تجريها الوزارة الهادفة إلى إدخال تعديلات على قانون السمعي البصري، وأن جهة حزبية معلومة تدخلت لفرض تعديلات ذات مرجعية دينية وإيديولوجية، وهذا ما يتطابق ويتكامل عما يجري من حديث بأن الحكومة تنوي أخيرا تطبيق «احمرار العينين» تجاه الإعلام العمومي السمعي البصري، وتفكر جديا في إيجاد تبرير لإلغاء جميع البرامج التنشيطية في القنوات العمومية التي تتناقض مع الهوية الدينية للمغاربة. للأسف، تصر الجهة الحزبية وربما الدعوية التي تمتلك الحزب على أن تلبس للخلفي قناعا جديدا لن يكون به هو الخلفي الذي اشتغل بهدوء طيلة أكثر من سنتين، وأن القول الآن بعد كل الغبار الذي تطاير من تحريك الكثبان الراكدة بأن إعلامنا العمومي مضاد للقيم الوطنية والدينية، والإعتراف الآن أن مجرد موظف هو الذي يقرر في مصير أخلاق المغاربة، يعني أن الحكومة تحولت إلى منظمة حكومية غير حكومية، وأن الوزير الوهمي مطالب الآن في التفكير في حل آخر يحفظ له ماء الوجه.