أخي العزيز، كما تعلم ذلك جيّدا، لا أحد هيّأني لأكون ما أنا عليه اليوم. لقد وُلدنا في نفس البيت و لنا نفس الأبوين، هذا، على أيّ حال، ما أتمنّاه. الحكاية تقول إنّه تمّ العثور عليّ في قفّة، في زاوية من أدراج « السويق « بطنجة. أختنا زينب، و إلى غاية الخامسة عشرة، عذّبتني بهذه القصّة. في العادة، كان عليّ أن أكون اليوم أبيع المسروقات، أو في أحسن الأحوال الخضروات في سوق السلع القديمة الرّخيصة ب» كسبراطا «، حيّنا الأثير و البغيض. كنتَ دائما متقدّما. وصلتَ ثلاث سنوات قبلي، و كنتَ دائما المفضّل عند أبي. ذلك لأنّ أمّي المسكينة قُدّر لها أن تضع خمس بنات قبل أن تضع ذكرا، أنتَ. أنا كنتُ الأخير و ما زلتُ الأخير. ما كان عندي ربيع، ما كان عندي صيف، و ها هو قد حلّ الخريف. تتذكّر، كلّ طفولتنا كنّا نلبس ثياب الآخرين. أحذية، قمصان، سراويل الآخرين. سوق الخردة ب» كسبراطا « كان أبانا الحقيقيّ. لقد أطعمنا، كسانا، علّمنا. حتّى كُتبنا كانت كتبا مستعملة. كان دائما يلزم البحث عن فرصة للحياة، و إنْ في ظلّ الآخرين. أو على الأصح البقاء على قيد الحياة. لقد علمّتنا أمّنا أن نكون فخورين. فخورون ... بماذا تحديدا ؟ لا أدري ... تصوّرٌ مجرّدٌ. كنتُ، مع ذلك، أتساءل دوما كيف نجحتْ في أن تحقن دمنا بهذا الإباء. هذا الإباءُ كان ملكيتي الوحيدة، ثروتي الوحيدة. إلى اليوم الذي صفعني فيه أستاذ اللغة الفرنسية، مُظهرا لكلّ القسم كتابي الممزّق كلّه، المليء بالأوساخ، بالرّسوم، مع كلّ صفحاته المفقودة. بالنسبة إليه، كان الأمر بديهيا : لا يمكنني أن أكون إلاّ تلميذا سيّئا حتى أعامل كتابي بهذه الكيفية و ما زالت السنة في بدايتها. لم أمتلك الشجاعة لأشرح له أنّ كتابي قد عاش عدّة حيوات. أنّي لم أكن المالك لكتابي، و لستُ الفاعل لما هو مكتوب و مرسوم على صفحاته.أتذكّرُ أنّي رويتُ لك هذه القصّة و أتذكّرُ كيف أنّك نجحت في أن تجعلني أضحك، بينما كانت الدّموع تسيل على خدودي.أمّي هدّأتني. أتذكّر كلامها : « كَدْعْرَفْ أَ لْقْطِيوِطْ دْيَالِي، لْمِكْسِي بِحْوَايْجْ نّاسْ عُرْيَانْ « . صدقتْ أمّي. كان هذا بالضبط ما استشعرتُه في القسم. كنتُ عريانا أمام كلّ العالم. لقد تلقّى تصوّر أمّي عن الإباء ضربة قوية. في هذا اليوم، صمّمتُ أنّه إذا كان عليّ أن أعاقب مرّة أخرى فلأعاقبْ على الأقل على أخطائي الخاصّة بي. عزمتُ عندئذ أن أكتب و أرسم حكايتي الشخصية. قرّرتُ أن أمتلك أفكاري الخصوصية ، حتى لا أجد نفسي أبدا عريانا. كلّ هذا محزن، موجع و رائع في نفس الآن. كانت الأشياءُ مستحيلة و قاسية. لكن هذا ما جعل منّا ما نحن عليه اليوم. لم يمنعنا هذا الأمر من الحلم، من إرادة تغيير شرطنا و معه العالم. أنت اخترتَ الفلسفة، و أنا اخترتُ الفنّ. ما كان أبونا الكهل يكترث في البداية.كان يتمنّى فقط أن يشتغل أحدنا في بنك، لضمان مستقبل العائلة. لم أكن أحبّ مطلقا البنوك و الآتي من الأيام سيجعلني مُحقّا. أنتَ توقّفتَ في منتصف الطّريق، و حتّى أقول الحقيقة، في بداية الطّريق. هجرتَ كلّ شيء، دراستك، أحلامك، الفلسفة و الفلاسفة. تخلّيتَ عن كلّ شيء. لم أعرف أبدا لماذا. كنتَ الأقوى بيننا نحن الإثنين، الأكثر ذكاء و لكن ! في النهاية تفرّقت سبلنا و ابتعدنا عن بعضنا.أنا ذهبتُ أبحث عن ثياب جديدة كما تقولُ.أعرف أنّك اليوم تبغضني، و سبق لك أن أبديتَ لي ذلك، أحيانا بنوع من الّلطافة، و أحيانا بكثير من العنف. اليوم، أريدُ أن أكلّمك، أريدُ أن أكتب لك. أريدُ أن أكتب لك بالكلمات القليلة التي فضُلت لي. تلك التي نجحتُ في الاحتفاظ بها في زاوية صغيرة من ذاكرتي. تلك التي أنقذتها، نظّفتها و غسلتها. لا أعرفُ كيف و من أين أبدأ. الأمر شاقّ، بل الأمر مازال مستحيلا تقريبا اليوم. مستحيل أن تبدأ، مستحيل أن تستمرّ، مستحيل أن تنتهي. كلّ شيء كان مستحيلا تقريبا البارحة، غير أنّه اليوم أصبح أكثر استحالة. أن تعيش، أن تبدع، أن تحبّ، أن تنفصل، أن تموت، أن تمضي في صمت و نسيان من الجميع. لا مشاريع للغد. الغدُ مستحيل. الغد كما البارحة لا يخصّان أحدا. حتّى أقول لك الحقيقة، الغد و البارحة لا وجود لهما إطلاقا. منذ أن غادرتُ العائلة، تعلّمتُ أن أركّز على الآن و اليوم. أن أعيش يوما بيوم. كلّ الذين يتحدّثون عن الغد، كلّ الذين يعدونك بغد، لا شيء لديهم يمنحونه لك اليوم. ما يهمّ هو اليوم و الآن. و لا يجب عليك أن تعتمد إلاّ على اليوم. انسَ الذين يطلبون منك اسم أبيك. انسَ الذين يسألونك : أنت ابن من ؟ لأنّك أنت ابن لا أحد. أنتَ ابن نفسك، أنتَ أبو نفسك. أنت الآن و اليوم.لا تنسَ أنّ فرصتك الوحيدة أن تعلم بأنّ كلّ يوم هو الآن. عليك أن تُولد اليوم. أن تعيش اليوم. أن تفهم اليوم. أن تموت و أن تولد ثانية كلّ يوم. هذا أمر مستحيل، أسمعك تقولُ. نعم، هو مستحيل، لكنّه فرصتك الوحيدة.إذن أمسكْ المستحيل بيديك الاثنتين، أعدْ تشكيله و اخلقْ منه عالمك. ليصرْ المستحيلُ الأداة و سلاح المعركة. ليصرْ المستحيلُ صديقك، نجيّك، أليفك، رأسمالك، هويّتك. ليصرْ المستحيلُ مفتاحك، ضوءك. أضئْ بالمستحيل جهالة من يعلمون.من يفكّرون نيابة عنك. الذين يحدّثونك عن الغد و هم يمنعونك من أن تعيش اليوم و الآن. أظهرْ لهم ما أنت قادر أن تصنعه بالمستحيل، و بلا شيء تقريبا، بأطراف خيط. أظهرْ لهم ما أنت قادر على فعله اليوم و ليس غدا أو بعد غد. قدّمْ ماضيك للكلاب المسعورة، الجائعة لتتقاسمه. دعْها تمزّقه ألف مُمزّق. غدك هو هذا اليوم بالذات.غدك هو هذه اللحظة بالذات التي تتنفّس فيها. تنفّسك هو غدك الحقُّ. لتتنفّسْ إذن و لتملأْ رئتيك بالهواء. كلّ ما يحدثُ لك هو لك، خُذه إذن. سيصيرُ العالم لك إذا أردتَ أنت أن تكون جزءا من العالم. كلّ شيء يتعلّقُ بك، كلّ شيء هو لك. لقد وُلدتَ على كوكب، لم تولدْ في بيت، و لا في حيّ، و لا في مدينة، و لا في وطن.كلّ الأوطان تنتمي إليك. كلّ اللّغات. كلّ عطور الدّنيا. خذْ كلّ شيء، كلّ شيء هو لك. هذا صعبٌ، أسمعك تقولُ. نعم، إنّه صعب.إنّه لأمر شاقّ جدّا أن تتّصل بالعالم. أن تتصوّر العالم.إنّه لأمر شاقّ جدّا أن تقبض على العالم، أن تقبلهُ كهديّة.لأنّ الذين اعتادوا أن يفكّروا، أن يتكلّموا، أن يعيشوا عوضا عنك، أقنعوك بأنّ العالم لا يخصّك. أنّ موطنك لا يخصّك، و لا مدينتك، و لا حيّك، ولا حتّى البيت الذي وُلدتَ فيه. لتأخذْ كلّ شيء، خذْ الأقصى، طالبْ بالأقصى.عشْ كلّ الحياة في يوم واحد.عشْ كلّ يوم في عالم، كلّ يوم في لغة، كلّ يوم في ديانة. أسمعك تقولُ : و الحدود؟ ماذا عسانا نصنع إزاء الحدود و الحواجز ؟ الإبداعُ عدوّ الحدود. لتُبدعْ ، اعملْ بحيث يتجاوز إبداعك الحدود. اعملْ بحيث يتجاوز فكرك الحدود. لتبدعْ، لتنتقدْ، لتُغيّرْ، لتتكلّمْ، لتصرخْ، لكن لا تنسَ أبدا أنّ الذين صرخوا عاليا خسروا صوتهم، و أنّه لا يجب أن نُضيّع حسّ و اتّجاه المعركة. تعرفُ أنّ الأشياء مستحيلة من هناك حيث وُلدتَ. تعرفُ كذلك أنّ من هذا المستحيل عليك أن تستخرج قوّتك، تستخلصها كما تُستخلص خلاصةُ العطر من نبتة بريّة متوحشّة. لا تنتظرْ مساعدة من أحد و لا تنتظرْ أحدا. سرْ، اركضْ إذا استطعتَ، و اسقطْ حين تخذلك قواك.اسقطْ و لا تخجلْ من السّقوط. ابكِ و لا تخجلْ من البكاء. كابدْ و لا تخجلْ من المكابدة. مرّة أخرى، خذْ كلّ شيء و لا تتركْ شيئا.لا تنتظرْ أن تُعطى لك الحياة على طبق. الحياة تجربة، إذن اختبرها. طالبْ الحياة بكلّ ما تريدُ، لا تكنْ خجلا. اطلبْ و هبْ، هبْ كلّ شيء. هبْ الحياة للحياة، لا تكنْ بخيلا. نعم، قدّمْ كلّ شيء إذا كنتَ تُريد كلّ شيء. امنحْ نفسك دون خوف من أن تضيع. ضِعْ، لا تستمعْ أبدا للذين يعلمون. للذين يظنّون العلم بكلّ شي و الذين يريدون أن يحرموك من مباهج التجربة.لا تنصتْ لنصائحهم، لحكاياتهم الحائلة. إنّهم أشباح، لا تدعهم يوسوسون لك. لا تدعهم يتملّكون جسدك و عقلك. لتكنْ جسدا، لتكنْ عقلا.لتكنْ نفسا. عندئذ ستتجاوز الحدود، ستتغلّب على الحواجز، ستُحلّق عاليا.لا تخفْ شيئا، قلْ كلّ شيء. لتطلبْ أن ترى، اخترْ أن تكون من الذين لا يعلمون، من الذين يكدّون في البحث عن المعرفة، من الذين لا يخشون من أن يروا، أن يسمعوا، أن يشمّوا، أن يتذوّقوا، أن يلمسوا، أن يتنفّسوا. أمام المستحيل، يلزمُ أن تظلّ حيّا. المعركة غير متكافئة بالتأكيد، لكنّها معركة حقيقيّة تستحقّ تضحية حقيقيّة. إذن، هبْ نفسك بأجمعها إلى معركتك. خذْ فرصة هذا التّعارك و عاركْ. لتعشْ كلّ يوم، لتمتْ كلّ يوم، لترجعْ إلى الحياة كلّ يوم. اقطعْ لسانك المريض من الخوف و من الخجل، تعلّمْ لسانا آخر. أزلِ الحجاب، كنْ وجها، صوتا، عيونا، دموعا. لتكنْ بسمة. لتكنْ ثمرة، دعِ الآخرين يتذوّقونك، ينهلون منك. لتكنْ رئة، تنفّسْ. لتكنْ يديْن، أصابع، لامسْ الحياة و استشعرْ حرارتها. لتكنْ قدميْن، سرْ، قمْ بخطوات، اركضْ. لتكنْ قلبا، عاركْ. الذين ما زال في مستطاعهم أن يحلموا، لا ينامون أبدا. إذن استيقظْ، ظلْ مستيقظا. افتحْ عينيك، شاهدْ ، املأْ عينيك بكلّ صور العالم.لا ترفضْ لفضولك أيّ شيء. لتمنحْ كلّ شيء لليوم و الآن. جسدك، عقلك، روحك، كلّ هذا يخصّك. لا تدعْ أحدا يقرّر، يفكّر عوضا عنك. « كلُّ شيء مكتوب منذ الأزل. « هذه عاهة تربيتنا. مأساة حياتنا. حماقة أسلافنا.إذا كان كلّ شيء قد كُتب، ماذا بقي لنا لنكتبه؟ ماذا بقي لنا لنقوله، لنفعله، لنعيشه؟ هذه الجملة المقروءة في كتب شبابي تراود ذهني في كلّ لحظة. حكمُ الواقع، حتّى قبل الولادة. الإحساسُ بعدم القدرة على البتّ في أيّ شيء. أخي العزيز، يجبُ أن نكتب. لا شيء كُتب . اكتبْ و كنْ نقطة النّهاية لحكايتك. أسمعك تقولُ : الوقتُ ما زال مبكّرا. لكن فيما بعد، سيكون ربّما فات الأوان. بلا إبطاء، يجبُ أن نكتب الآن، في هذا اليوم بالذّات، في هذه اللحظة بالذّات. من فرط إعطائي للنصائح، أختنقُ و أسقطُ من جديد في هول الماضي. لكن، لنرجعْ إلى اليوم و الآن. لا شيء كُتب. كلّ شيء يتغيّر و دوما يتغيّر. حكايتك يمكن أن تبتدئ اليوم، وليس هناك إلاّك القادر على كتابتها. لتبتدئْ ب « لا « Nonو لتختتمْ ب « اسمك الشخصي « Prénom. قلْ لا لكلّ ما كُتب و اقلبْ الصّفحة.قلْ لا و ابدأْ صفحة جديدة.إنّها لحظة مجابهة واقع الأشياء بكلّ جماله وعنفه.الحقيقة كما هي من دون حجاب، و لا حماية. لقد تمّت تربيتنا، حتّى لا أقولَ قولبتنا، لنفكّر من خلال التّرسيمات التي لقّنونا إيّاها. ضعْ تفكيرك في نقطة الصّفر و تقدّمْ. انسَ كلّ ما قرأته. يلزمُ تفكيك « الآلة «، الخروج منها، و التّموضع ما أمكن خارجها. يلزمُ رفض ركام القيم، التسّببُ في الحادثة و تأخيرُ الزّمن. أحيانا أتساءل إذا ما كنتَ قد مضيتَ إلى منتهى الاستعارة، منتهى الافتتان بهذه « الآلة « التي مسختنا. أنتَ في حاجة إلى نقطة ميّتة، أن تخلق ثغرة في الزّمن حتى تتمكّن من إيقافه. فقط الوقت اللاّزم لرؤية حقيقتك، حكايتك و قد لطّخت ما تبقّى من العالم. يلزم الحفرُ حدّ قلب كلّ شيء، حدّ الوصول إلى الأساسات، و إظهار أن البنيات ذاتها تقوم على وهن و كذب. إنّ من يقولون لك إنّ كلّ شيء قد كُتب يسجنونك في كتبهم، في أفكارهم، في تاريخهم، و في حيواتهم. آه، لو أنّ الكلمات كانت حرّة بلا تاريخ ! كلمات فقط، كلمات عارية. لا، لا شيء كُتب. كلّ شيء يحتاج أن نعثر عليه. أن نُبدعه. أن نعيشه. لا، لا يمكنني مطلقا أن أتصوّر العالم بأدوات الماضي. فقط لأقبل بحقيقة وهمية. أنا اليوم حيّ. أفكّر، أسيرُ , و أستمرُ. أعاني و حالتي ليست لها، دون شك، علاقة بكَ، غير أنّ كلّ جسدي يُؤلمني. لساني نزيف، أنزفُ متى تكلّمتُ.أنا حيّ و أجازفُ بحياتي في كلّ لحظة. إذا ما كان كلّ شيء ضوءا، سأقصدُ الضّوء.إذا ما كان كلّ شيء غبارا، سأمضي إلى نهاية الغبار بظمإ و رغبة. لقد تصوّرتُ مبكّرا أنّ الأسوأ أن أستيقظ يوما و أدرك أنّ حياتي قد عاشها من قبل شخص آخر. أخي العزيز، هذه الرّسالة قد كُتبت لي، وهي تفكّر فيك. منير باريس في 30 مارس 2009 *منير فاطمي فنان تشكيلي ولد بطنجة 1970، يشتغل عل تركيبات و منحوتات و فيديوهات و صور و رسومات. ** النصّ مأخوذ من : Lettres à un jeune marocain , Editions du Seuil, Octobre 2009, p : 107 _ 115