نعود الى شرطي بلقصيري الذي فتح النار على زملائه وأرداهم قتلى في فورة غضب سوداء. كان الله في عون دفاعه ، فالرجل ارتكب هذه المجزرة أمام شهود عيان ، وهو يعترف بما اقترفته يداه ، ويسوق تعليلات ومبررات يعتبرها دافعا لهذه الجناية ، ويبدو أنه لا يهدف بذلك الاستفادة من ظروف التخفيف ، مادام أنه وخلال جلسة التحقيق طالب من منبر الاتهام من القضاء إعدامه شنقا أو رميا بالرصاص في ساحة عمومية وفي بلقصيري بالذات ، التي كانت مسرحا للجريمة المروعة. ومهما كان الحكم الذي سيصدر ضد الرجل، ولن يكون في نظري سوى المؤبد او الإعدام، فان هذه الجريمة ستظل مسجلة في حوليات الاحداث التي عاشها المغرب، ليس بالنظر الى عدد القتلى أو وسيلة القتل، بل لان لها خلفيات ستظل تلقي بظلالها على واقع الفساد الذي ينخر قطاعا هاما هو قطاع الأمن الذي نكن له كل التقدير والاحترام . البلوطي الذي قتل زملاءه ، هو انسان من لحم ودم، والإنسان كتلة من الخير والشر ، والشر هو الذي بدا واضحا وهو يرتكب هذه المجزرة ، لكن الخير يظل خفيا ، ويجب أن تسلط عليه الأضواء في كل مراحل المحاكمة . كتلة الخير في الظنين البلوطي بطل مجزرة بلقصيري ، ربما قد تكون جرأته في الجهر بالقهر والفساد الذي استشرى في بعض الأجهزة الأمنية، و لم تكن قضية ( الباراج) الذي تسبب في هذه الكارثة سوى الشجرة التي تخفي غابة المصالح المتضاربة. كم من أفراد العناصر الأمنية، سواء قبل مجزرة بلقصيري ، جاهرت بالفساد ، وكم من هذه العناصر انتحرت او حاولت الانتحار للهروب من هذا الواقع ، وقد تبدي لنا الايام المقبلة لا قدر الله ، أحداثا مؤلمة نتمنى أن لا تكون في مستوى هذه المجزرة، ولكنها قد تختلف في التعبير عن المنكر والفساد ، عناصر أمنية ، تلاحظ بل تعاين بالعين المجردة كيف يغتني بعض رؤسائها لمجرد تواطؤ مع بارونات المخدرات ، او لمجرد تحرير محاضر ضبطية يتم فيها تزوير الوقائع التي من شانها تبرئة الفاعلين وإلباس الضحايا تهما ثقيلة. واذا كنت أندد بهذه المجزرة وأترحم على الضحايا الثلاث من زملاء البلوطي، وأدعو لهم بالمغفرة ولأسرهم بالصبر والسلوان ، فإنني أعتقد أن مرتكب هذه المجزرة ضحية هو الاخر ، ضحية لأوضاع الفساد الذي ينخر بعض الأجهزة الأمنية ، وهو وضع يتضرر منه المئات من عناصر الأمن الشرفاء الذين لا يمدون أيديهم الى المال الحرام مهما كانت ظروفهم المالية قاسية ، وما اكثر هؤلاء الشرفاء النزهاء . أنا لست محاميا ، ولا يحق لي ان أفتي في غير اختصاصي، ولكنني لو كنت مدافعا عن البلوطي ، للجأت الى ما يلجأ اليه المحامي الفرنسي الشهير جاك فيرجيس في قضاياه ، حيث تقوم فلسفة دفاعه على استراتيجية يسميها دفاع الكسر ، ويعني بها تحويل أعين القضاة من قاعة المحكمة الى فضاء الرأي العام ، من خلال شن الهجوم المضاد سياسيا واجتماعيا أكثر منه قانونيا . وأرى أن هذا النوع من الدفاع اذا ما سلكه محامي البلوطي، فانه حتى اذا لم ينجح في تخفيف العقوبة عن موكله ، فانه لا محالة سيسلط الأضواء على الفساد ، حينذاك سيساهم في تنوير الرأي العام ، لكن هل الرأي العام المغربي في حاجة الى هذا التنوير ، وهو الذي يعرف الشاذة والفاذة من معظم مظاهر الممارسات الفاسدة لبعض العناصر الأمنية، بل إن هذا الرأي العام هو المساهم الاول فيها. والمشجع لها والمحرك لدواليبها. ، إذ لولا الرشاوى والممارسات الظلامية لما اشتدت المنافسة للفوز بموقع وظيفي بطواقيم ( الباراجات ) . واذن فإن محاكمة البلوطي تبقى محاكمة للفساد، محاكمة للمجتمع الذي يقدم الرشاوى ويوقع هذه الاحداث.