( 1 ) فِي مدينة النحاس، ينطفئ الْمِصْباحُ فِي الصدور؛ تُصبح العينان حجرتين تَحملان الشجرَ إلَى البحر الْمُتَلاطِم الأمواج... فِي هذه المدينة لا تصبح العصا حيةً تسعى، ولا ينشق القمر... واحدٌ وَ واحدٌ، ما جَمعُهما؟ سألتُ بِهذه المدينة أبا الهول، قال : جَمْعُهُما : اثنان. قلتُ : ما الدليل؟ قال : اسأل الحجرتين . سألتهما. رَدَّدَتَا : اثنان. شَقَّتْ سفينتِي عُبابَ البحر. بعد سبعة أيام، أَرْسَتْ هذه السفينةُ بِجزيرة الوقواق. اِلْتقَيتُ بزهرة برية. سألتُها السؤالَ السابق. رَدَّتْ : إن كنتَ من مدينة النحاس، فالجواب عند أبِي الهول. ما أراه لَنْ يَتَحَمَّلَهُ قلبُك، لكن إِنْ صِرْتَ شجرةً بِهذه الجزيرة، وافَقْتَنِي فِي ما أراه. قلتُ: كيف لِي أنْ أصير شجرةً وأنا لَحْمٌ ودَم؟ قالت: صَاحِبْنِي فِي سَفَرِي الليلِيِّ، بَيْنَ أدغال هذه الجزيرة . صَاحَبْتُهَا سَبْعَ ليالٍ . وأنا أسيرُ معها، كنتُ أشعر أنِّي أفقد أعضاء جسمي عضوا عضوا. صَحَوْتُ. فإذا بِي شجرةٌ مُثْقَلَةٌ أَغْصَانُهَا بِالطيور الصادحة فَرَحاً. هي طيورٌ كانتْ تَمْلأُ جَبَلَ قَاف. من شدة النشوة، نَسِيتُ السؤالَ الذي كان يُؤَرِّقُنِي. فإذا الزَّهْرَةُ تعود مِنَ البَحْرِ إِلَي البَحْرِ. غلائلُها مُبَلَّلَةٌ برمال الْحُزْنِ. قالت : اِسْتَعِدَّ الآن، سَأُلْقِي عَلَيْكَ قولا ثقيلا: اَلْوَاحِدُ وَالْوَاحِدُ، جَمْعُهُمَا واحِدٌ. الْمسندُ والْمُسند إليه جَمعُهما يعطي الْمَعْنَى. اَلْجَسَدُ والرُّوحُ جَمعُهما يعطي الحياة. ثُمّ أَلْقَتِ الزهرةُ على نفسها، فِي صَمْتٍ صاخبٍ، سؤالاً غريبا: «هل يتحقق الْمَعْنَى بِي وأنا وحدي هنا أَمْخُرُ هذه الرمال؟» حَدَّقَتْ فِي وجهي طويلا كَأَنَّها تبحث بَيْنَ مُرُوجِهِ عن الجواب الذي يرشها بالفرح. لَم أقُلْ شيئا. لَم تقل شيئا. لكنها وضعتْ بين يديَّ كتابا. جَمَعَتْ غلائلَها. خَبَّأَتْها بَيْنَ جناحي هذا الهدهد الأزرق. ثُمَّ اختفت في أعماق بَحْرٍ قرمزي. ( 2 ) نَظَرْتُ فِي صدر الكتاب. تَوقَّفتْ عيناي عند عنوانه الغريب :وَلأَنِِّي. هل يتحقق المعنَى بِهذا التركيب؟ بِهذا الواحد؟ اَلجملةُ ناقصة. ماذا قبل الواو؟ وماذا بعد ياء الْمُتَكلِّمة؟ بَيْنَ هذين الْحَرْفَيْن حروفٌ لا مَعْنَى لَها. ( 3 ) لِلكتاب معنًى . صحيحٌ هو مُسْنَدٌ ، والْمُسْنَدُ إليه غائب . فَراشَةٌ تَحومُ حَوْلَ الكتاب .حَطَّتْ جناحيها فِي أعماق الْحِبْرِ الذي يَملأ الكتاب. بِهذه الفراشة، وهي تتنقل بين أنوار الكتاب، يتحققُ المعنَى.كلُّ نُور هو نَبْضٌ قويٌّ لقلب الزهرة. قلتُ للفراشة : حَدِّثينِي عن هذه الأنوار. قالتْ: سأحدثك عن بعضها. وَلَكَ أن تكتشف بقلبك باقي الأنوار. ( 4 ) لِلْمكانِ حضور قويٌّ فِي هذه الْجَمَرات. حضورٌ جَعَلَ من الْمَكان بَطَلاً لِقصة كتبتْها الزهرةُ شِعْراً متحررا من كل القيود إلا من نبضات القلب. تَقول الزَّهْرَةُ: ( مَاذَا يَحْدُثُ لَوْ أَنَّ الْهَواءَ الذي لَم يَجِفَّ يَكْشِطُ من الأندلس غُلالَةَ نَوْمِها الطويل فَتَجْلِس عاريةً إلا من نُدوبِها تبكي بقايا نَخلها السامق تردد لصاحبها: تَبَدَّتْ لَنا وَسْط الرُّصافةِ نَخْلَةٌ تَناءتْ بِأرض الغرب عن بلد النَّخْلِ فقلتُ شبيهي فِي التغرب والنوى وطولِ ابتعادي عن بَنِيَّ وعن أهلي) أَحْسَسْتُ وأنا أستحم بِهذا النور أن الأندلسَ هِي الزهرة . شَجّعَنِي على الإيمان بِهذا الإحساس حضورُ هذه الْغُلاَلَة بَيْنَ هذا النور الوهاج. الأندلسُ أُمٌّ تَحملُ بين عينيها إِرْثاً زَيَّن شِعابَهُ السعيدَةَ ماضيها العريقُ. هي اليوم تغط فِي نوم عميق، تغطي وجْهَها بغلالةٍ شفّافة ، لكن عُرْيَها لايُغطيه إلاَّ النُّدوب. ندوب تَمْلأُ جَسدَها الْهَشَّ.. هذا الجسدُ أَنْهَكَتْهُ السنون. هذه الأندلسُ/الزهرةُ مُسْنَدٌ يُفَتِّشُ عن الْمُسْنَدِ إليه لِيَتَحَقَّقَ الْمَعْنَى. كيف تكون الأندلسُ أَنْدَلُساً والنَّخْلٌ لا يَمْلأ صدرها؟ كيف يكون للغرب مَعْنًى وهو لَم يضع يدَه فِي يد الشرق؟ ( 5 ) تقول الزهرة: ( ماذا لو أَنَّ الْهَواءَ الذي لَمْ يَجِفَّ يُوقِظُ الْمُعْتَمِدَ من غفوته فَيَرَى البَيْتَ ويَسْمَعُ الصدى) الأندلسُ/ الزهرةُ جسدٌ غادرته الروح ذات مساء. الأندلس روحٌ لا يَحتويها جسدٌ. لايكون للأندلس معنًى إلا بِحضور الْمُعْتَمِد. تَشهدُ أَغْمَات أنَّ هذا الْمُعْتمدَ قد بُعْثِرَ رُفاتُه فِي جوفها. لكنَّ الزهرةَ، وهي تنشرُ عطرَها على جَبَلِ قَاف، لَم تُصدِّقْ هذه الشهادة. هي ترى أن الْمُعْتَمِدَ يَغْفو فِي صدرها البعيد عنها. فََمَنْ يوقظه ؟ من يَجعله يَأْتِي الأندلسَ فَيَتَسَلَّق جبالَها ويكتب أشعارَه على أوراقِ ورودها؟ يتحقق الْمَعْنَى حين يَحط الْمُعْتَمدُ جناحيه على صدر الأندلس، بعد أن يُحرق السُّفُنَ، الَّتِي أَتَتْ به والفراشاتُ تَمْلأُ شفتيه. ( 6 ) تقول الزهرة: ( ينبض قلبُ قرطبة بين يديّ يدوزن تاريخا منسيا: أيتها الرياح المباركة ما الَْحَاجَةُ لأرض يباب لا الْمُعْتَمِدُ ولا وَلاَّدةُ فيها ولا جَواد لَكْفير) قرطبةُ ، المدينةُ الحلمُ ، تراها الزهرةُ أرضا يبابا. تَراها تركيبا بلا معنَى. كيف يتحقق لقرطبةَ هذا المعنَى وليس بَيْنَ أحضانِها الْمُعْتمدُ ، أو وَلاَّدَةُ، أو جَوَاد لَكفير؟ هل يتحقق المعنَى بالمعتمد وهو نفسه بلا معنَى؟ أين اعْتماد؟ هل يتحقق المعنَى بِوَلاّدَة الفاتنةِ وليس ببستانِها ابنُ زيدون ؟ اَلْمُعتمد ..هذا ..شاعرٌ نعرفه. ابن زيدون .. شاعر نعرفه. لكن من يكون جوادُ لكفير؟ هل هو أيضا شاعر؟ مع من يَتَشَكَّلُ معناه؟ اَلزهرةُ وحدها تعرف أسرار الجوادِ، تعرف مَن يكون. سَأَلْتُ البحرَ : يا بَحرُ من يكون هذا الجواد؟ رَدّ: أََعْرِفُ أَنَّ الْجَوادَ مرتبطٌ بالسخاء. هَل تريد الزهرةُ بالْجَوَادِ الفَرَسَ الذي كان يَمْتَطِيهِ طارقُ بنُ زِياد، هذا العاشقُ الذي فتح قَلْبَ الأندلس، ومَلأهُ بالنخيل؟ أم هل تريد الفارسَ النَّبِيل ؟ قالت قرطبةُ: خيالُك جامحٌ كالْجَواد . الزهرةُ التِي نَبَتَتْ فِي أعماقي لا تعنِي لا هذا، ولا ذاك. إنّها تُريد النَّهْرَ الكبير Guadalquivirهذا النهرُ شَقَّ صدري. رشَّنِي بالشَّمْسِ القُرْمُزِية. أنا القُرْطُبَةُ التِي لا يتحقق معناي إِلاَّ إذا امتلأت عيناي بعقيق هذا النهر الكبير . ( 7 ) تقول الزهرة : (كقارئ كَفٍّ يرى ما يرى يرى الشجرة المونعة التِي فِي خياله اجتاحها الكبريتُ الآن يرى النهر وقد فاض بأحذيتهم ) تَرسم هذه الومضةُ الشجرةَ/ الزهرةَ فِي ماضيها وحاضرها. كانت مورقةَ الأغصان ، هي اليوم يَجْتاحها الكبريتُ، فأين النَّهْرُ ليتحقق المعنَى ؟ أين النهر ليسقي الشجرة فتورق من جديد؟ ( 8 ) تقول الزهرة: ( يرى الشرقَ العتيق ويَسمعُ الصدى : أيتها السحابةُ أمطري أنَّى شئتِ فسيأتينِي خراجُك. كقارئ كف يرى ما يرى يرى خراجَ السحابة ) تفتح الزهرة بوابة عتيقة ، تدخل والحياء يملأ عينيها ، فإذا بغدادُ تُرسل سحابتَها إلَى أقصى ركن فِي حلم الأطفال . تفرح الزهرة وهي ترى خراج السحابة يَمْلأ سَماء الرصافة بالتين والزيتون . شاسع حلم الأطفال، وشاسع حلم الرشيد. يتحقق الْمَعْنَى في هذ الكلام الْمُسْتَعار ، يتحقق بالْجَمْعِ بين السحابة والخراج .بين الأرض والسماء. لكن الزهرة حين نَشَرَتْ غلائلَها بالأندلس لَم تَمُرَّ بِها السحابة ، فماذا يفيد خَراجُها؟ ( 9 ) تقول الزهرة : ( ......... .............. ........... ) ( 10 ) غَريبٌ أَمْرُ هذا الكتاب، عنوانُه لا يُحقق الْمَعْنَى . الأندلسُ بلا شِعْرٍ لا تُحقق الْمَعْنَى . قرطبةُ بلا جوادِها لا تُحقق الْمعنَى . ( 11 ) وأنا أضع الكتاب على الطاولة ، لأعود إليه ثانيةً بعد عودتِي من جُزُر الوقواق، تذكرتُ أن الزهرة سألتنِي : هل يتحقق بها المعنى رغم أن السحابة لَم تَمرَّ بِغلائلها؟ أيتها الزهرةُ ، أنتِ مسندٌ ومسند إليه، أنتِ قرطبةٌ ونَهْرُها الكبير ، أنتِ الأندلسُ ومُعتمدُها الأمير . أنتِ .................. ....................... هذا الشِّعْر النابض بالحياة، مَن قالَه؟ هذه اللوحة النابضة بالشِّعْر، من خَطَّها؟ أَنْتِ.. أنت والرِّيشَةُ تُحَقِّقان الْمَعْنَى وجدة : 20 / 06 / 2011