حتى لو أصبحت الذاكرة، مجرد مجمرة مُطفأة، فإنها لا تعدم أرشيفا ولو من رماد؛ لذلك يكفي أن نحُكَّ الرؤوس كأعواد الثقاب، في صقيع مدينة إفران، لنُساعد الذاكرة على الإندلاع من جديد، بحرارة أفكار يكاد يُبلِّلها النسيان..! أتحدث هنا حتى لا يمضي أحد، حافي القلمين، بعيداً في التأويل، عن فكرة المناظرة الثقافية التي أعاد اتحاد كُتاب المغرب، نفخ الروح في رميمها المهترئ، بعد تَصَرُّم ثلاث وعشرين سنة، على المناظرة الثانية التي أقيمت في فاس عام 1990؛ أما الأولى فكانت عام 1986 بتارودانت؛ ولكن ما الفرق أن يتمدد الزمن ميتاً لأربع سنوات بين المناظرتين الأولى والثانية، ويزداد حيز الأعوام اتساعا، ليصبح أشبه بنوم أهل الكهف، بين المناظرة الثانية وهذه الأخيرة، التي التأم المثقفون المغاربة في شتى الحقول المعرفية والجمالية، يوم السبت 12 يناير 2013 بإفران، من أجل الإعداد لأطوارها المرتقبة؛ ولا أخفيكم قلباً إذ أفشي أن كل الأدباء والسينمائيين والتشكيليين والمسرحيين وذوي الفكر واللغة، خصوصا الذين يخلو سجلهم الثقافي من سوابق المشاركة في مناظرة، تكاد شعلة إرادة المعرفة الطافرة بالحيرة والسؤال من أعينهم، تُذَوِّب كل جليد إفران، من أجل عيش تجربة تصنيع أفق ثقافي أجمل بالمغرب، وذلك بتنزيل كل الأحلام من يوطوبياها العالقة في شَرَكِ الرؤوس، إلى أرض أحوج إلى واقع يلمسها بحب لتستمر في الدوران والحياة..! وَلَشَدَّ ما يجترحنا الأسف حتى النسغ، ونحن نُلوِّي أعناقنا بالإلتفات للوصايا - حتى لا أقول (التوصيات) - التي تمخضت عن المناظرتين الأولى (تارودانت) والثانية (فاس)، وبقيت دون أن يأكل أحد زبدة أو يشرب لبناً، لأكثر من عقدين، مجرد شواهد على قبور، إذ لم يتحقق منها إلا هذا القلم الذي بين أيدينا، يجري بحبر الكتابة على الورق مجرى الدم في العروق، لضرورة وجودية قصوى فقط؛ أما كان حاضرنا الثقافي سيكون أجمل من أمسنا، لو تم تفعيل وصايا المناظرتين الأولى والثانية، وتنزيلها إلى حيز الممارسة والتطبيق، بتشريع قوانين تحميها من التلاعب بالعقول؟ لا أعرف إذا كان المسؤولون عن هذه القهقرى والرجعية، يعضون اليوم أطراف الأصابع ندماً، وهم يرون أبناءهم حليقي الرؤوس ولا تظهر في قرعها أية فكرة، ولكن أجزم أن ابنا شرعياً لهذا البلد اسمه الثقافة المغربية، لم يَنُبْهُ أي شيء من وصايا مناظرتين مرَّت حتماً عبر البطون مباشرة إلى مجاري المياه...! قد يستدعينا الحلم الجميل أن نغط في مزيد من النوم، ولكن حلمنا بالمناظرة الثقافية التالية التي يقترحها اتحاد كتاب المغرب قريبا، يجعلنا أكثر أرقاً وقلقاً، مخافة أن تتكرر نفس المهزلة...!