عانى المغاربة منذ استقلال البلاد وانتصار الحركة الوطنية على المستعمر وأتباعه من آفة سياسية تتمثل في تمييع الحياة السياسية بمختلف مظاهرها كان وراءها خصوم الديمقراطية وكل الذين رأوا في بناء الصرح الديمقراطي بالمغرب اعتداء على مصالحهم الذاتية وضربا لتطلعاتهم في تحقيق مخططاتهم المبنية على استغلال النفوذ والإثراء غير المشروع بعدما نسجوا خيوط التآمر على الديمقراطية وحبكوها بشكل جعلوا من أنفسهم « خير « الدافعين على المسار الديمقراطي باللجوء إلى شتى وسائل التمويه والتغليط كما حصل في 1963 عندما تقرر الدخول في عهد المؤسسات الدستورية المنتخبة في إطار تفعيل دستور 1962 بإجراء أول انتخابات تشريعية في شهر ماي 1963 ، حيث تم تأسيس « جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية « مع تسخير جميع إمكانيات الدولة لصالحها من اجل الفوز بقاعة أول مجلس نيابي في عهد الاستقلال ، بل تم اللجوء إلى مختلف أساليب الترهيب والتعديب والضغوط والإغراءات المادية والمعنوية من اجل إضعاف وتقزيم الأحزاب الوطنية الديمقراطية في هذه الانتخابات التشريعية ، الأمر الذي خلق لدى المناضلين وعموم الشعب جوا من الإحباط والتيئيس من العمل السياسي ليفقد هذا الأخير مصداقيته عندما شعر الناخبون بعدم احترام إرادتهم في التصويت والمس بحريتهم في اختيار ممثليهم ليفقدوا بذلك الثقة في المؤسسات المنتخبة مادامت مؤسسات مطعون في شرعيتها وتمثيليتها الديمقراطية . واستمر مسلسل تمييع الحياة السياسية بدون هوادة بخلق أحزاب سياسية وتصدرها المشهد السياسي في مختلف الاستحقاقات الانتخابية الجماعية منها والتشريعية والغرف المهنية باللجوء إلى آليات جديدة تنسجم ومتطلبات المرحلة ضدا على قواعد اللعبة الديمقراطية المعول عليها في الأنظمة الديمقراطية المعاصرة . كما استمر مسلسل تمييع الحياة السياسية بافتعال انشقاقات داخل أحزاب سياسية واختراق بعضها « للقيام بالواجب السياسي من الداخل ». إن الديمقراطية كل لا يتجزأ تستمد شرعيتها من وجود أحزاب قوية ، قوية بمبادئها وتوجهاتها واختياراتها ، قوية بمناضليها وأطرها ، قوية بتنظيماتها وهياكلها ، قوية بمواقفها وقراراتها المستقلة ، قوية بمدى احترامها للديمقراطية الداخلية في تدبير شؤونها، قوية بمدى مساهمتها في تنظيم المواطنين وتأطيرهم وتمثيلهم ، كما تستمد الديمقراطية شرعيتها من وجود مشهد سياسي منبثق من إرادة المواطنين بكل حرية تحترم فيه قواعد اللعبة الديمقراطية . وتستمد الديمقراطية أيضا شرعيتها من وجود مؤسسات منتخبة ذات مصداقية قائمة على أساس التمثيل الديمقراطي ومنبثقة من صناديق الاقتراع تحظى بثقة المواطنين . ولا يمكن للديمقراطية أن يكتمل صرحها إلا بترسيخ دولة الحق والقانون والمؤسسات تسودها المساواة وتكافؤ الفرص واحترام القانون باعتباره أسمى تعبير عن إرادة الأمة يتساوى أمامه الجميع ، أشخاصا ذاتيين أو اعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية، فهل توقف مسلسل تمييع الحياة السياسية والقطيعة مع ممارسات الماضي الأليم في ظل الدستور الجديد بتوجهاته واختياراته التقدمية بعدما نص على الاختيار الديمقراطي كإحدى ثوابت الأمة ووجوب اختيار الأمة لممثليها في المؤسسات المنتخبة بالاقتراع الحر والنزيه والمنتظم ، بعدما ارتقى بدور الأحزاب السياسية بالعمل على تأطير المواطنين وتكوينهم السياسي وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية وتدبير الشأن العام والمساهمة في التعبير عن إرادة الناخبين والمشاركة في ممارسة السلطة على أساس التعددية والتناوب بالوسائل الديمقراطية وفي نطاق المؤسسات الدستورية، بعدما نص على أن الانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة هي أساس مشروعة التمثيل الديمقراطي وأن السلطات العمومية ملزمة بالحياد التام إزاء المترشحين وبعدم التمييز بينهم وأن كل شخص خالف المقتضيات والقواعد المتعلقة بنزاهة وصدق وشفافية العمليات الانتخابية يعاقب على ذلك بمقتضى القانون ، بعدما ربط المسؤولية بالمحاسبة ؟ وإلى أي مدى استفاد خصوم الديمقراطية من النتائج السلبية التي جناها المسار الديمقراطي بالبلاد من معضلة التمييع السياسي وتأخرها في النادي الديمقراطي العالمي ؟ وإلى أي حد استفاد هؤلاء من تجارب الدول التي جعلت من الديمقراطية مجرد واجهة لتضليل الرأي العام الداخلي والدولي ؟ وهل بالفعل « ولى «السيستيم ّ الذي طبع الحياة السياسية بآلياته ومظاهره بدون رجعة في ظل التحول الديمقراطي الذي أرسى دعائمه خطاب 9 مارس 2011 ووضع قواعده الدستور الجديد ليفتح المجال لبناء صرح ديمقراطي يصبح فيه تمييع الحياة السياسية مجرد « ماكياج «انتهى بانتهاء صانعيه في مزبلة التاريخ. ويبقى السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه بإلحاح: لمصلحة من تمييع الحياة السياسية ؟ ومن له المصلحة في تمييع الحياة السياسية بعدما أصبح النموذج الديمقراطي المغربي تحديا لا رجعة فيه ورهانا وطنيا لا بد من ربحه .