لا يحتاج البصر لشحذ بأكل الجزر، كي نرى الحُظوة التي تتوج هامة الرواية في بلدان لا تُخلف موعداً، مع الدخول الثقافي أو الأدبي؛ ولكن ماذا عن الشعر، هل ضيّع الصوت في هذه الأسطوانة التي لاتدور إلا بالسرود؟؛ يقول الكاتب والجامعي الفرنسي «جان ميشيل مولبوا» المعروف بمؤلفه «شاعر مرتاب»، بأنه لا يمكننا الحديث عن «دخول» شعري، ما دامت روزنامة منشورات هذا الجنس الأدبي، غير مهمة أو غريبة عن فوضى النشر الكبرى لشهر شتنبر، كما أن الناشرين يوثرون شرفات أخرى أكثر هدوءاً (فبراير، مارس مثلا)، حيث يكمن حظ ضئيل في أن تولي، الصحافة بعض اهتمام لما ليس روائيا؛ ولنا أن نجترّ الأسف في هذا المقام النهاوندي الحزين، إذ نرى أن الناشر لا يُقدم على إطلاق عمل شعري، إلا بعد رسم استراتيجية مُحكمة تَحُدُّ من خطر الكساد المُحدق بالبضاعة!؛ وليس يُعوز هذا الوضع المأزوم المحيق بالشعر عالميا، أي برهان يدمغ الأدمغة، بل يكفي النظر كيف تحل المكتبات محل الناشرين في اختياراتها للإصدارات الروائية، لكن أسلوب عملها غير ذي أهمية، ما دامت عملية الفرْز أو الانتقاء ليست دائما عن حب؛ فكيف ننشُد في هذه اللحظة العارمة، أن يحفلوا حتى بالشعر؟؛ ومع أن الشعر لم يغب كليا في هذا الدخول الأدبي، بدليل انبثاق العديد من الدواوين الخلاقة عالميا، إلا أن ثمة جهات ثقافية تحتدم غيرة وخوفا من أن تتحول هذه القيمة الأدبية، إلى ماموث آخر آيل إلى انقراض؛ أو لنقل إن هذه الإحالة الاستعارية لفيل الماموث، إنما تصدق إسقاطا على الشاعر الذي قال عنه الكاتب الفرنسي «أموري داكونها»، إنه لا يستطيع عيشا بفنه، وإذا لم تنقذه المؤسسات الثقافية مادياً، فحتماً سيؤول إلى فقدان؛ هكذا يلهجون بالكلام الأشبه بالزعاف في فرنسا، ليضيفوا إلى الأزمة الاقتصادية العالمية، أزمة إملاق الشاعر، أما في بلدنا ، فمن فرط ما رضعنا هذه الأزمة وغدت مألوفة، استبدلنا الحليب بعد الفطام بالحبر، لنستمر في الحياة ولو بالخيال الشعري!؛ ومع ذلك، لا يمكن الجزم إلا أن شجرة الشعر تكابر مورقة ولو كان الفصل الثقافي خريفاً، وما دمنا نعتبر الشعر الجزء الأكثر سرية واستثنائية في الأدب، لنا أن نرضى بكونه نادراً، ولا يسعنا إلا الاغتباط من هذه المقاومة العابرة التي آثرها سَكَناً؛ إن الشعر ليس غائباًَ حقاً في هذا الخريف، بل ثمة دور نشر عالمية أينعت بدواوين لن تعرف ذبولا؛ فقد أطلقت دار النشر الفرنسية المعروفة «غاليمار» نسخة غير منشورة ومزدوجة اللغة من الكتاب الملحمي الشعري لدانتي الشهير ب «الكوميديا الإلهية»؛ ومن ذات الدار، أصدر الشاعر الفرنسي الكبير «ميشيل دوغي» ، ديواناً موسوماً ب «كما لو هكذا: قصائد 1980 2007»، وأطل أيضاً الشاعر والكاتب «جيم هاريسون» من دار «فلاماريون»المعروفة، بديوان بعنوان «ساعة على الأقل» في ذات وقت صدور روايته الأخيرة؛ ولسنا نعرف كلاما آخر يُقال في ماء هذا الحبر الذي من فرط الأسف غدا جليداً، سوى أن العالم قد تغَلَّف بقوقعة السلحفاة، فصار أصلد عن كل إحساس بالشعر؛ أليس هذا مما يؤشر على نهاية الإنسان؟