نحن البسطاء نعرف أنه لا ظهر لنا سوى هذه البلاد الممتدة من الماء إلى الصحراء ومن الصحراء إلى الماء , هذا الوطن هو بيتنا , لا نملك أرصدة في الخارج ( في الحقيقة ولا في الداخل ) ولا نطمح لذلك , وليست لنا قوارب للهروب أو أن يهتف فينا طارق من زمان جديد: البحر من ورائكم والعدو أمامكم..لا نملك عنوانا غير ما تجود علينا به المجالس المنتخبة من أسماء للأزقة والشوارع , عندما تتغير تبقى القديمة صامدة في شواهد الملكية العقارية , وبدل أن يكون لك سطر في العنوان , يصبح لديك سطرين تنتقل من الأول إلى الثاني بعبارة " سابقا "..نحن البسطاء نؤمن بأن هذا الوطن هوبيتنا وعنواننا للأبد , فلا نريد صراع جمال أو فيلة في خيمة الوطن... منذ أسابيع يرتفع خطاب سوداوي حول الوضعية الإقتصادية للبلاد , وفي الصورة شيء من الحقيقة , لكن بين طرفين تضيع الموضوعية وتضيع الحقيقة , وعندما يضيعان معا فإنه من الواجب أن مضع أيدينا على قلوبنا..هناك رؤيتين لما يجري , الأولى موضوعية تشخص الواقع كما هو ووفق كل الظروف المحيط ببلادنا سواء التعثرات الداخلية أو الإنعكاسات الدولية التي لا يستطيع أي إقتصاد في العالم تجنب تأثيرها , لكن هذه الرؤية لا تكتفي بالتشخيص البسيط والسطحي بل تخوض مغامرة تقديم البدائل والحلول والإقتراحات بشكل إرادي ومبادر , وهة ما فعلته رابطة الإقتصاديين الإستقلاليين التي قدمت حلولا واقعيا وتقييما في إطار نقد ذاتي للتدبير الإقتصادي للبلاد والذي تعد إختلالته الرئيسية راجعة بالأساس إلى ضعف الحكامة في الميدان الإقتصادي وتعثر تنفيذ مخططات كان من المفروض أن تساهم اليوم في تقليص عجز الميزان التجاري وبالتالي الإنعكاس الإيجابي على محفظة المغرب من العملة الصعبة وتعزيز الطلب الداخلي وخاصة المنتوجات المغربية , وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقق بدون دعم الصناعة الوطنية , وهذا الدعم يبدأ بالتوازي بين المواطن والدولة , فالعديد من الدولة الصاعدة مثل تركيا والبرازيل , إنما حققت معدلات النمو تلك بتحولها إلى قوة صناعية وإختيار التصنيع ظل في بلادنا مرفوعا لحساب قطاع الخدمات المرتكز على ريع السياحة بصفة خاصة , وحتى على هذا المستوى لم يتم إستكمال كل البرامج التي طانت موضوعة بشكل أثر على صورة بلادنا , نتذكر جميعا مشاريع عملاقة مثل ضفتي أبي رقراق الذي يسير اليوم بسرعة السلحفاة , وتهيئة الواجهة البحرية للرباط إلى حدود تمارة , حيث أن كل هذه المشاريع أصبحت في خبر كان , وهذا الأمر يدخل الريبة إلى المستثمرين والمواطنين على السواء. الرؤية الثانية لا تنظر إلى الموضوع سوى من جهة ما ستحققه الأزمة من مكاسب سياسية , فبين من يحمل مشروعا للحزب الأغلبي وبين من ساهم في تحبير أمور البلاد في العشرية الأخيرة , تطابق غير مقبول سياسيا وأخلاقيا , فالحزب الأغلبي لا يحق له الحديث عن الأزمة مادام مشروعه هو إعادة تدوير وإستعمال التجارب الحزبية الإدارية الفاسدة التي قادت المغرب منذ الإستقلال إلى بداية حكومة التناوب التوافقي , فكل الأعطاب البنيوية التي تعرفها البلاد هي نتاج سياسات رعاية الفساد والريع التي صنعت أكتاف الحزب الأغلبي في كل زمان , لهذا فما هو موجود اليوم من أزمة إنما هو جزء من التراكم الذي حصل لسنوات , فلو أن تجربة التناوب دخلت على وضع إقتصادي متماسك , لكنا اليوم في وضعية أخرى , ولو أن البلاد توفرت على البنية التحتية اللازمة والكافية والضرورية , لما صرفت الدولة ملايير الدراهم على بناء الطرق والطرق السيارة والسكك الحديدية والمساكن الإجتماعية والموانئ والمطارات والملاعب الكبرى والمستشفيات , وتهيئة المدن , والسدود , بشكل يفوق في بعض المجالات ما تحقق في المغرب منذ بداية القرن , وكمثال على ذلك الطرق السيارة التي لم تكن بلادنا تملك منها عند تشكيل حكومة التناوب سوى المقطع الفاصل بين الرباط والدارالبيضاء على مسافة تصل في أقصاها 90 كلم , والمقارنة مع ما تم إنجازه واضحة , كما أنه يجدر التذكير بأن السكتة القلبية التي كانت تتهدد المغرب وفتح طريق التناوب التوافقي , كانت بسبب الوضعية الإقتصادية أساسا حسب التقرير الشهير للبنك الدولي الذي قدمه الراحل الحسن الثاني بوضوح وصراحة أمام البرلمان في سابقة من نوعها , فالأزمة الإقتصادية كانت هي الأصل إضافة إلى الوضع السياسي الذي إتسم بإستمرار التحكم كنمط في الحكم منذ الإستقلال. الغريب هي المواقف التي عبر عنها الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية بخصوص الوضعية الإقتصادية , فالجميع يعرف أن الإتحاد ترجل من الحكومة قبل أشهر فقط , وهو جزء أساسي من الإنجازات التي تم تحقيقها وبنفس القدر يتحمل مسؤولية الأعطاب البنيوية التي عجزت الحكومات المتوالية عن إصلاحها , ليس بسبب نقص الكفاءة , لكن بسبب نقص الجرأة أمام آليات التحكم وهذه مسؤولية جميع من شارك في الحكومات المتوالية لمرحلة التناوب التي أكرر حقق فيها المغرب إنجازات مهمة , الإتحاد يقول بأن تدبيره لقطاع المالية إتسم بنتائج مهمة , وهذا صحيح لأن الظرفية العامة الدولية كانت تساعد على ذلك , ولهذا لا يمكن الحكم على وضعية ما بإقصاء كل العوامل المحيطة بها , والشيء بالشيء يذكر , فجزء من الأزمة التي يتخبط فسها الإقتصاد الوطني اليوم مرتبط بالأزمة في أوربا وبتوسع الطبقة الوسطى نسبيا في بلادنا وتغيير العادات الإستهلاكية للأسر التي عادة ما تفضل العلامات الأجنبية كنوع من الوجاهة الإجتماعية فحديث " الماركات " لم يكن قط ضمن معايير إستهلاك المغاربة , حيث إنتقل الأمر من الألبسة ليصل اليوم إلى الحمامات...وهذا كله إستنزاف للعملة الصعبة ومساهمة في تعميق العجز التجاري , وبالتالي لا يمكن تحت أي ظرف القول بأن الأزمة تعبير عن حادث ظرفي , فالذين إختاروا للإقتصاد المغربي أن يرتبط بأوربا بصفة خاصة , يتحملون المسؤولية على نتائج ذلك. بلادنا اليوم ليست في حاجة إلى نصب منابر التخوين والمزايدات السياسوية , بل في حاجة إلى وحدة وطنية حقيقية عاجلة , لأن الإستقرار جزء أساسي من وصفة الخروج من الأزمة , والحالة اليونانية تؤكد ذلك.