توطئة يعتبر هذا المقال محاولة لدراسة مستويات ووظائف التنغيم في اللغة العربية ، لأن قضية التنغيم أثارت خلافا كبيرا بين اللسانيين المعاصرين، وسأتطرق في هذه المقالة لبيان مستويات ووظائف التنغيم لأن قضية التنغيم لا تنحصر في اختلاف درجات الصوت التي ينشأ عنها ارتفاع النغمة أو هبوطها، ولكن نرى أن التنغيم يحدث في كل ما يحيط بالنطق من وقف وسكت وعلو صوت ونبر...إلخ.(*) وانطلاقا من هذا فإن الاهتمام بالأداء والنطق من أهم الجوانب التي أكد عليها "علم اللسانيات" ،فدراسة الأصوات ومعرفة أقسامها وصفاتها وما تتعرض له من تغيرات تعتبر البداية الأولى لمعرفة وإتقان أي لغة من لغات البشر والأساس الذي تنطلق منه أي دراسة لسانية، وتجدر الإشارة أن الأداء الصحيح للغة، ونطقها له أسس ومعايير دونها العلماء، ولذلك ينبغي أن تلقن وتعرف، فالانحراف عن النطق المتعارف عليه عند أصحاب اللغة يؤدي غالبا إلى اختلاف المعاني وتباين المقاصد، ناهيك عن عدم وضوح المعنى، فمعرفة طرق الأداء والنطق الصحيح، لا يقل في أهميته عن معرفة علم النحو، وللسانيات قدم راسخة في دراسة أساليب الأداء في اللغات، ا لأن الأصل في اللغة أن تكون منطوقة يعبر بها كل قوم عن أغراضهم (1) والكتابة ما هي إلا رسم لنقل وتصوير المنطوق، لذلك ابتكرت اللغات من الوسائل ما يجعل المكتوب مقاربا للمنطوق، بحيث استعانت أحيانا بوضع علامات ورموز وإشارات ذات معنى إيحائي وآخر تضميني 1- قضية التنغيم تعريف وتحديد حقيقة أن التنغيم هو موسيقى الكلمة أو الجملة، التي تتغير بتغير الحالة النفسية والشعورية، وفي هذا الإطار فالأستاذ محمد الأنطاكي يرى أن قواعد التنغيم في اللغة العربية كانت مجهولة تماما لأن النحاة لم يشيروا إليها في كتبهم بالقدر المطلوب وأنا هنا لا أتفق مع هذا الموقف بدليل أنني وجدت النحاة قد تطرقوا في جل كتبهم لقواعد التنغيم، لأن التنغيم هو أحد المصطلحات التي ترد في علم الأصوات ويهتم به معلمو اللغات ويلقنونه للدارسين عند تعلمهم اللغات، فهو أيضا " في نظري تتابعات مطردة من الدرجات الصوتية المختلفة"(*) وهو مجموع التغيرات التي تحدث في درجة نغمة الصوت في الكلام والحديث المتواصل، هذا الاختلاف في النغمة يحدث نتيجة لتدبدب الأوتار الصوتية، وقضية التنغيم مرتبطة بالإهتزازات، وكلما كانت ذات سرعة كان عدد التغيرات في التنغيمات أوضح. وانطلاقا من كل هذه التعاريف والتحديدات فقد خلص الدكتور تمام حسان إلى أن " التنغيم هو ارتفاع الصوت وانخفاضه أثناء الكلام"(2) وهو أحد سمات الأداء الذي لا بد من وجوده في أي لغة بشرية، ولذلك فإن كل كلمة وكل جملة ينطق بهما لا بد أن تشتملا على درجات مختلفة من درجة الصوت، ما بين عالية ومنخفضة ومستوية ومنحدرة تتناسق وتتناغم لتؤدي الكلمة صوتا معينا والجملة تركيبا مفبولا، ولذلك فاختلاف درجة الصوت في الكلمة وتغيرها من مقطع إلى آخر قاعدة عامة تخضع لها جميع اللغات. وخلاصة القول إن التنغيم أوسع من أن يحصر فيما يسمى بهبوط النغمة، أوصعودها، وإنما كل ما يحيط بالنطق من طرق الأداء كالوقف، السكت، علو الصوت، نبر المقاطع، طول الصوت وهنا يصح لنا القول بأن ، قضية التنغيم تقتصر على التراكيب المسموعة دون المقروءة، ولذلك فالتنغيم عموما عنصر مهم من عناصر الأداء، وعدم إتقانه يؤدي إلى عدم وضوح معنى الكلمة والجملة، وقد يحدث أن يتحدث إليك من لا يثقن اللغة، ولا يجيد أدائها فلا تعرف ما يريد قوله، والسبب في ذلك راجع للنطق غير السليم بما هو متعارف عليه من التنغيم، إن حسن الأداء لا يتأتى إلا باتباع سنن أهل اللغة في النطق، والإهتمام بالجانب التطبيقي، والتعود على مجاراة الفصحاء وإسماع للقراء لما يتضمنه من وقف، ومد، وسكت ومدود مختلفة. 2- مستويات قضية التنغيم انطلاقا مما تقدم فإن معظم الباحثين قد حددوا مستويات التنغيم في مستويين اثنين هما: أ-مستوى هابط ب- مستوى صاعد فالأول (أ) يمثل له بالمستوى الصوتي للجملة الخبرية، أما الثاني فيتحقق في الجملة الإستفهامية، بالإضافة إلى هذين المستويين هناك تصنيفات أخرى حددها بعض الدارسين على شكل أرقام يمكن توضيحها على الشكل التالي: الرقم (1) مستوى منخفظ الرقم (2) مستوى متوسط الرقم (3) مستوى صاعد الرقم (4) مستوى صاعد حاد جدا من المؤكد أن هذه المستويات الأربعة ليست مطلقة بل تبقى نسبية، ومما لا حظته أن المستوى الرابع محدود الوجود والتوزيع ولا يبدأ به، بمعنى أنه لفظ وغالبا ما يوجد في الألفاظ الإنفعالية، كالدهشة و الحزن و الفرح الشديد وغيرها (3) ويرى دارسون آخرون أنه يمكن وصف مستوى التنغيم انطلاقا من وجهتي نظر مختلفتين إحداهما على شكل نغمة مقطع وقع عليه النبر في الكلام،والثانية هي المدى الذي بين أعلى نغمة وأخفضها في الصوت سعة وضيقا، فأما من حيث وجهة النظر الآولى، فينقسم تنغيم الفصحى إلى مستويين الأول ينتهي بنغمة هابطة، أما الثاني فينتهي بنغمة صاعدة على المقطع المذكور، وأما من حيث وجهة النظر الثانية فينقسم إلى ثلاثة أقسام هي الواسع والمتوسط والضيق (4) 3- وظائف قضية التنغيم كما سبقت الإشارة فالتنغيم يستعمل لوظائف تواصلية، ولذلك فتنغيم الجملة الواحدة بطرق مختلفة ودون أي تغيير في مكوناتها يميز الجملة أو الصيغة الإخبارية من الاستفهامية من التعجبية من الطلبية. ففي اللغة العربية يمثل بالجملة التالية: 1-ماذا تقرأ ليلى؟ تأخذ هذه الجملة معناها بحسب التنغيم الواقع عليها. 1أ: ماذا تقرئين ( يا ليلى ). 1ب: ماذا تقرأ؟ ليلى. ففي (1أ) ناب التنغيم الهابط عن أداة النداء، فأفاد أن المتكلم ينادي " ليلى" ليسألها ماذا تقرأ. وفي (1ب) ناب التنغيم الصاعد عن أداة الاستفهام (هل) أي: هل تقرأ ليلى؟ فالمتكلم يتساءل عن الموضوع الذي يقرأه المخاطب وكذلك الشأن بالنسبة للجملة التالية: (2) لعبت في المباراة. إذ يختلف الغرض منها باختلاف المقامات التواصلية. أ: خبرية. ب: تعجبية، انفعالية ( إذا أخبر رفيق رفيقه بأنه لعب في المباراة، فتعجب من ذلك). ج: استفهامية ( المتكلم يسأل هل وقع الفعل أم لا ). د: تهكمية ( المتكلم لا يلعب ويسخر من نفسه ). انطلاقا من هذا يتضح أن التنغيم يؤدي وظيفة نحوية في السياق التركيبي للجملة، ويبدو ذلك واضحا في التراكيب الاستفهامية ونظائرها الشرطية وفي الإغراء والتحدير وكذا النفي(5). وعلى الرغم من أن مجال التنغيم هو الكلمة اللغوية ككل، فقد تتجلى أيضا وظائفه أحيانا حين يتعلق الأمر بالكلمات المفردة التي تستعمل جملة مثل الجملة التالية: - نعم فهذه الجملة يمكن أن تنطق بتنغيمات متنوعة فتؤدي وظائف تختلف باختلاف المقامات التواصلية. أ: جملة تقريرية تعني :"أوافق". ب: سؤال: هل قلت نعم يا حفصة / يا زكرياء / يارحمة. ج: طلب استمرار: أنا منصت، فاستمر. د: احتمال: من الممكن أن يكون. ه: توكيد: بكل تأكيد(6). 4- نماذج تطبيقية لمستويات التنغيم ووظائفه. في هذه الأمثلة سننطلق من الجملة التالية: متى سنلعب الكرة ؟ لبيان وظيفة ومستوى التنغيم. أ: المقام التواصلي الذي أنتجت فيه هذه الجمل. زكرياء يريد معرفة موعد لعب الكرة. لالة حفصة تسأل عن موعد السفر. ب: المستوى التنغيمي لهذه الجملة، مستوى صاعد يفيد الاستفهام الحقيقي باعتبار المتكلم: 1- جاهل بموعد الكرة. 2- يريد المتكلم معرفة هذا الموعد. 3- المتكلم يفترض أن المخاطب عالم بهذه المعلومة. فالجملة (1) يمكن أن يستغنى فيها عن التنغيم الصاعد لتأدية معنى الاستفهام (؟) لأن إسم الاستفهام "متى" يدل على ذلك، بخلاف الجملة (2) التي يلعب فيها التنغيم الدور الأساسي في تأدية معنى الاستفهام. (2) تم لعب الكرة. ذلك أن التنغيم الصاعد هو الذي يخرج الجملة (2) من حيز الإخبار إلى حيز الاستفهام، إذا لم يكن الغرض التواصلي هو الاستفهام الحقيقي، أي إذا كان الاستفهام يفيد معنى ثالثا كما في الجملة (3) (3) هل يمكنك أن تساعدني في إنجاز التمارين؟ فالمتكلم لا يجهل معلومة يعتقد أن المخاطب يملك الجواب عنها، بل إن هذا الاستفهام يخدم الوظيفة التواصلية: الطلب، فتتخذ الجملة بذلك تنغيما هابطا مثلها مثل الجملة الخبرية. وخلاصة القول إن علماء العربية قد أشاروا إلى أهمية قضية التنغيم من حيث مستوياته ووظائفه وأكدوا أن النطق بالكلمة أو الجملة أو الخطاب بتنغيمات تكاد تكون مختلفة تؤدي وظائف لغوية تؤثر في حالات كثيرة على معنى الكلمة فالجملة فالخطاب. وانطلاقا من محاور هذه المقالة فإنني خلصت إلى نتائج أولية يمكن حصرها على الشكل التالي: 1- التنغيم ركن أساسي في الأداء لا تخلو منه أي لغة من لغات البشر. 2- إتقان التنغيم ومعرفته أمر بالغ الأهمية على جميع المستويات اللسانية لما له من صلة بالمعنى، فهناك وظيفتان للتنغيم كما سبق وهما: وظيفة أدائية ووظيفة دلالية. 3- لعلماء العربية إشارات ذكية تدل على تنبههم لما للتنغيم من أهمية في تفسير وتوضيح المعاني والإعراب. 4- التنغيم لا ينحصر فقط في درجة الصوت وإنما هو مجموعة معقدة من الأداء الصوتي بما يحمل من نبرات وتواصل، وتتابع مطرد للسكنات والحركات التي يتم بها الكلام.. 5- التنغيم يقتصر على التراكيب المسموعة أما التراكيب المقروءة فقد استعاضت عنه بعض رموز وعلامات الترقيم لتدل على الاستفهام والتعجب والاستغاتة والدهشة. *باحث في اللسانيات المراجع (1) ابن جني: الخصائص ج1 ص 33 . (2) د/ تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص 164 . (3) محمد العبد: المفارقة القرآنية ص 58 . (4) د. تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها ص 228 . (5) فتح الله سليمان: مدخل إلى علم الدلالة ص 11 . (6) أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 230 . (*) د/ حسن الطويل: بنية الكلمة ووظيفتها في تشكيل الجملة: دراسة مورفو-فونو-لوجية أطروحة الدكتوراه.