أوكرانيا تستخدم صواريخ "أتاكمس" الأمريكية في ضرب الأراضي الروسية..    طنجة : حريق مهول يلتهم معملا للنسيج بمنطقة المجد في طنجة+ فيديو    توقعات أحوال الطقس اليوم الأربعاء    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    المعارضة: السيادة الصناعية "شعارات"    وجبات "السيبيا" ترسل أزيد من عشرة أفراد للمستعجلات في اشتوكة    مشروع قانون المالية 2025.. لقجع يتحدث عن إعفاء الأجور التي تقل عن 6000 درهم من الضريبة    رئيس الحكومة: الشروع في الإطلاق التدريجي للمنطقة الصناعية محمد السادس "طنجة تيك"    المؤامرة الجزائرية الجديدة.. زعزعة استقرار موريتانيا ومالي لتحقيق الوصول إلى الأطلسي    الصحافة الإسبانية تشيد بإبراهيم دياز بعد تسجيله هاتريك مع أسود الأطلس    بشكل مفجع.. وفاة طالب بين مدينتي العرائش والقصر الكبير تحت عجلات حافلة للنقل العمومي        "برلمان الطفل" يحتفي بربع قرن من الالتزام المدني وتربية القادة الشباب    قيمة رساميل الاستغلال للمشاريع الصناعية المُصادق عليها بلغت 140 مليار درهم مابين ماي 2023 ونونبر 2024 (أخنوش)    بعد 20 عاماً من الغياب.. لمريني يشرف على أول حصة تدريبية على رأس الإدارة الفنية لهلال الناظور    أكادير تحتضن تخطيط "الأسد الإفريقي"        المدور: المغرب من الدول السباقة في مقاربة محاربة الفساد وحقوق الإنسان    وضع الناشط المناهض للتطبيع إسماعيل الغزاوي رهن تدابير الحراسة النظرية    أونشارتد: أحدث العروض التوضيحية المفقودة تراث عرض الكنز الصيد ديو في المزامنة    بورصة البيضاء تنهي التداولات ب"الأخضر"    ليدي غاغا سحبت قبالة واحدة من أفضل عروض الوقت الحقيقي من أي وقت مضى    "اليونسكو" تدرس إدراج الحناء في قائمة التراث الثقافي غير المادي    درك أزمور يحبط محاولة للهجرة السرية    انخفاض أسعار اللحوم الحمراء في المغرب بعد بدء عملية الاستيراد    مقتل جندي إسرائيلي في معارك لبنان    الأمطار تعود إلى الريف وسط انخفاض ملحوظ في درجات الحرارة    جدول أعمال مجلس الحكومة المقبل    حكيمي يبتغي اعتلاء العرش الإفريقي    لافروف يحذر الغرب من النووي الروسي    وزارة الصحة الروسية تطلق اختبارات سريرية لعلاج جديد لسرطان الدم    الإعلام الإسباني يتغنى بتألق ابراهيم دياز رفقة المنتخب المغربي    مساء هذا الثلاثاء في برنامج "مدارات" : لمحات من السيرة الأدبية للكاتب والشاعر محمد الأشعري    الذهب يلمع عند أعلى مستوى في أسبوع مع تراجع الدولار    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    من حزب إداري إلى حزب متغول    شبكة تسلط الضوء على ارتفاع أسعار الأدوية في المغرب    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم        حاتم عمور يصدر كليب «بسيكولوغ»    ولي العهد السعودي يهنئ الملك بمناسبة عيد الاستقلال    أربع جهات مغربية تفوز بجائزة "سانوفي" للبحث الطبي 2024    في تأبين السينوغرافيا    الشاعرة الروائية الكندية آن مايكلز تظفر بجائزة "جيلر"    ما هي الطريقة الصحيحة لاستعمال "بخاخ الأنف" بنجاعة؟    فريق بحث علمي يربط "اضطراب التوحد" بتلوث الهواء    صحتك ناقشوها.. إضطراب النوم / الميلاتونين (فيديو)    إندرايف تغير مشهد النقل الذكي في المغرب: 30% من سائقيها كانوا يعملون بسيارات الأجرة    مجموعة ال20 تعلن وقوفها خلف قرار وقف إطلاق النار في غزة    ارتفاع حصيلة ضحايا فيضانات فالنسيا بإسبانيا إلى 227 قتيلاً ومفقودين في عداد الغائبين    عرض الفليم المغربي "راضية" لمخرجته خولة بنعمر في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي    العسكريات يسيطرن على التشكيلة المثالية لدوري أبطال إفريقيا    نشرة إنذارية: زخات رعدية ورياح عاصفية في عدد من أقاليم المملكة    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوحش الأخضر
قصة قصيرة
نشر في العلم يوم 24 - 05 - 2012

ذهب زوجي كعادته إلى العمل، و جلست وحيدة قرب النافذة متكاسلة، أرنو إلى الحديقة من خلل الستائر. لم يكن لدي أي سبب معين لتأمل الحديقة. غير أنني لم أجد أفضل من ذلك. قلت في نفسي عاجلا أم آجلا ستنتابني فكرة من شدة التحديق فى الخارج، خاصة و أنني كنت أشاهد شجرة السنديان، الشجرة المفضلة لدي. غرستها شتلة، و نمت أمام عيني. كنت أفكر فيها مثل صديق قديم. و من حين لآخر أتحدث إليها في سريرتي.
في ذلك اليوم أيضا، كنت آخذة، من دون شك، في التحدث إلى السنديانة. لم أعد أتذكر عن أي شيء كنت أتحدث، و لا كم من الوقت جلست هناك. فالوقت يمر كلمح البصر لما أشاهد الحديقة على هذا النحو. أرخى الظلام سدوله في غفلة مني. لكن المؤكد هو أنني جلست لمدة طويلة أمام النافذة، و على حين غرة سمعت ذاك الصخب. صوت خافت، على شكل احتكاك بعيد. اعتقدت للوهلة الأولى أن مصدره من داخل جسدي، من أعماقه، إنذار آت من الشرنقة المبهمة التي يحيكها جسدي في الداخل. حبست أنفاسي كي أستمع. بدأ الصوت، بالتأكيد، يقترب شيئا فشيئا. ما تُراه قد يكون؟ لم تكن لدي أدنى فكرة. كل ذلك اقشعر له جسمي.
عند قدم السنديانة، بدأت الأرض تنتفخ، و ترتفع و كأنما تحت ضغط سائل ثقيل و سميك. حبست أنفاسي من جديد. انشق ما ارتفع من الأرض، و برز أمام عيني مخلبان مسننان، و عينان مصوبتان نحوهما. كمشت يدي و قلت في نفسي سيحدث أمر ما. هذه ليست إلا البداية. كان المخلبان يكشطان الأرض بعنف. بعد برهة تحول الشق إلى ثقب اندفع منه حيوان صغير أخضر بجسد تغطيه حراشف خضراء لامعة.
ما إن خرج من الثقب، حتى تنفض لإزالة ما علق به من مدرات الأرض. كان له أنف غريب ممدود صار لونه الأخضر غامقا عند نهايته. و كانت نهاية هذا الخرطوم ضامرة و ذلقة تذكر بسوط. أما عيناه فكانتا بشريتين انتابتني ارتعاشة عند النظر إليهما إذ كانتا تعبران عن انفعالات مثل انفعالاتي أو انفعالاتكم.
بدون تردد، بتوان و ترو، اقترب الحيوان من الباب. شرع يطرقه بطرف خرطومه الدلق. رجَّعت الطرقاتُ الصدى في كل أرجاء البيت. توجهت و أنا أمشي على رؤوس أصابعي نحو الغرفة الداخلية، أمني النفس بأن الحيوان لن يكتشف وجودي. لم أستطع حتى الصراخ. إذ كان بيتنا منعزلا، و زوجي يعود متأخرا من العمل في المساء. لم يكن في مستطاعي الهرب من الباب الخلفي ، لكون البيت لا يتوفر سوى على باب واحد. هو الباب الذي كان يجهد المخلوق الرهيب في اجتيازه. كنت أتنفس بهدوء بقدر ما أستطيع في محاولة لطمس كل أثر لوجودي، آملة في أن يكل هذا الشيء و يعود أدراجه. غير أنه لم يكف. كنت أسمع خرطومه يطرق الباب و يقلب في جهة القفل. بدا أنه لم يجد صعوبة في كسر القفل. على إثر ذلك، انفتح الباب، محدثا صريرا. رأيت خرطومه يندس في الفتحة ثم شلت حركته. ظل على هذا النحو لمدة طويلة مثل حية بخطم منتصب، محاولا استنشاق هواء البيت. قلت في نفسي: لو كنت أعلم أن هذا سيحدث، لظللت بالقرب من الباب، و حالما يطل أجذع أنفه. فقد كان بالمطبخ العديد من السكاكين المشحوذة. ما إن عبرت هذه الفكرة رأسي حتى تخطى المخلوق العتبة هازئا، و كأنه عرف ما جال بذهني. ثم بدأ يتكلم بدون تلعثم لكن مع تكرار بعض الكلمات، و كأنه تعلمها حديثا. سوف لن يفيد ذلك في شيء، لن يفيد. قال الوحش. إن خرطومي، مثل ذيل عظاية، يدفع دائما بقوة و إلى أبعد حد. قد تكوني تلقيت نتيجة عكسية، عكسية. ثم أدار عينيه و كأنهما دوامتان غريبتان.
يا إلهي، لا. قلت في نفسي. إنه يعرف ما يجول في خاطري ! فأنا أكره حتى فكرة أن يعرف شخص ما أفكر فيه، خصوصا عندما يتعلق الأمر بوحش صغير مرعب و متعذر سبره مثل هذا الوحش. أحسست بعرق بارد يكتسح كل أطراف جسدي. ما الذي سيفعله بي هذا المخلوق؟ هل سيفترسني، أم سيجرني معه إلى غياهب الأرض؟ على الأقل إنه ليس من الرعب بحيث لا أتحمل النظر إليه. هذا شيء جيد، قلت في نفسي و أنا أنظر إليه. برزت من قوقعته ذات الحراشف الخضراء التي تغطي جسمه قائمتان ورديتان نحيفتان تنتهيان بمخالب طويلة. وجدتهما ظريفتين من فرط النظر إليه؛ أدركت أيضا أن هذا المخلوق لا يريد بي سوءا.
بكل تأكيد لا، قال و هو يهز رأسه. و عند كل حركة، ترتطم الحراشف بعضها ببعض و كأن أحدا ما دفع مائدة تكدست عليها فناجين القهوة. أي فكرة رهيبة يا سيدتي. أكيد لا، لا، لا، لن أفترسك، و لا أضمر لك الأذى. كنت على حق، فقد كان يسبر أفكاري.
سيدتي، سيدتي، ألا ترين؟ جئت من القاع، من قاع الأرض لأبوح لك، أبوح. لقد تعين علي أن أزحف لأصل إلى هنا. كان الأمر فظيعا، و كان علي أن أحفر، أحفر. انظري، مخالبي ملوثة الآن. و ما قمت بذلك بغية إزعاجك قطعا. إنني أحبك، أحبك لدرجة لم أعد أحتمل البقاء تحت الأرض. لهذا قطعت هذه المسافة زحفا للوصول إليك. حاولوا ثنيي ، غير أنني ما عدت بقادر على العيش في التحت. فكري في الشجاعة التي كان علي امتلاكها، فكري ! أكان علي أن أقوم بكل هذا مجانا إذا ما اعتقدت أن ذلك كان فظاعة و ادعاء من جانب وحش مثلي كي يبوح لك بحبه !
لكن ذلك كان فظاعة و ادعاء بحق، قلت في نفسي. كيف يتجرأ هذا المخلوق الرهيب مثلك على الحضور ليطلب مني أن أحبه؟
ما إن خطرت هذه الفكرة ببالي حتى ارتسمت على الوحش الصغير الخيبة. تغيرت حراشفه إلى لون بنفسجي و كأنها تُعبر عن أحاسيسه، و بدا كل جسمه متقلصا. شبكت ذراعي ، و أنا أراقب هذه التحولات تجري أمام عيني. ربما هذه الظاهرة تحدث متى تغيرت أحاسيسه. و ربما يخفي هذا المظهر الخارجي البشع قلبا هشا حنونا مثل قطعة نبات الخبازيات. أدركت أنه إذا كان على هذا النحو، فقد أفوز. كان علي أن أحاول. إنك وحش صغير مقرف، صرخت في دواخلي بشدة بحيث شعرت بالصدى يهتز له قلبي. أنت منفر أيها الوحش التافه ! غَمُقت حراشفه شيئا ما، و بدأت عيناه تجحظان و كأنما تمتصان كل الكراهية التي أوجهها إليهما. صارتا ناتئتين و هما تخرجان من وجهه مثل تينتين ناضجتين إلى حد الانفجار، و دموع تشبه عصيرا أحمر جعلت تسيل و تصل إلى الأرض.
لم يعد الوحش الصغير يرهبني. تخيلت كل أنواع التعذيب التي رغبت في إلحاقها به. ربطته إلى كرسي ثقيل بخيوط حديدية سميكة، و بمنتاف نزعت كل حراشفه من جذرها واحدا واحدا ، و حميت سكينا مسننة و حززت لحم عرقوبيه الناعم الوردي حزات غائرة، ثم كويت عينيه الجاحظتين مثل تينتين. عند كل تعذيب جديد أتخيله يقفز و يتلوى، و يئن و كأنني أنزل به حقا هذا العذاب الشنيع الذي أمارسه عليه. عيناه تذرفان دمعا ملونا، و سائل ينساب بهدوء إلى الأرض، و بخار رمادي بشذا الزهور ينفلت من أذنيه. كانت عيناه ترسلان نظرات عتاب مزعجة. سيدتي، صرخ قائلا، أرجوك، أتوسل إليك، لا تسيئي الظن بي. فلست أرغب في إذايتك بأدنى شيء. كل ما أشعر به تجاهك هو الحب، الحب ! لكنني رفضت الاستماع إليه. أجبته في خيالي: لا تكن تافها. زحفت إلى حديقتي ، و فتحت الباب بدون إذن، و دخلت إلى بيتي بعد أن كسرت الباب. لم أدعك البتة إلى هنا. و لي الحق في التفكير في كل ما أريد. و هذا بالضبط ما استمررت في القيام به. وجهت أفكارا رهيبة أكثر فأكثر نحو المخلوق. كنت أشج و أعذب لحمه بواسطة كل الآلات التي تصورتها. استعرضت كل الطرق الممكنة لتعذيب كائن حي، و لجعله يتلوى من شدة الألم. هاك، أنظر، أيها الوحش الصغير التافه، أنت لا تعرف من تكون المرأة. فعذابي آبد. لكن سرعان ما بدأت حدوده تتمازج، و خرطومه الأخضر يقصر إلى حد لم يعد بحجم سُرفَة الذباب. تلوى على الأرض، حاول أن يفتح فمه للكلام، بادلا كل ما في وسعه لتحريك شفتيه و يبلغني يعلم الله أي رسالة، أو يوصل إلي حكمة قديمة، أو معطى أساسي سها عن إبلاغه إياي. مع ذلك، و قبل أن يوفق في الأمر، انتاب فمَه جمود مؤلم، ثم تمازج و اختفى. و لم يعد سوى ظل شاحب ذي مسحة مسائية. لم تبق إلا عيناه الجاحظتان الكئيبتان معلقتين في الهواء. هذا لن ينفعك في شيء، قلت. يمكنك أن تنظر إلي قدر ما تستطيع، لكن لن تقدر على قول أو فعل أي شيء. وجودك زال و انتهى، و مُحيت من الخارطة. لحظتئذ بدأت أرى عينيه، هما أيضا، تذوبان في الفراغ، و في أرجاء الغرفة عم دجى الليل.
المرجع:
Haruki MURAKAMI, L?éléphant s?évapore, Edition Seuil, 1998.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.