سنون قليلة مضت، حين دخلت الحجرة، لأجد أمامي سيدة، لا أتذكر قامتها ولا لون وجهها. كل ما أتذكره منها سيحصل بعد مرور خمسة أشهر، جاءت حسناء، تبحث عن مكان لها بيننا، وزعت علينا ابتسامتها. ابتسامتها التي لم تفارقني طوال وقتي الضائع، قضت معنا ما تبقى من السنة، وبعدها حصلت على شهادة التدريس في الأقسام العمومية، حيث سرقت منا ساعات من المرح . كان يحلو لها أن تجلس خلف الصفوف، تتأمل مصيرها. هي التي ستقف طوال حياتها أمام الصفوف، كانت تبحث عن المتعة العابرة، أدركت الآن أن شهادة كفاءتها المفقودة أكذوبة كبيرة. واصلت حروبي على صفحات المقررات الباردة والخالية من متع القراءة والكتابة. ومنذ ذاك الحين تورطت في متاهة التلقي، وحسن السمع والترديد، و الاستقامة في برزخ الصف، وشاءت كل الأقسام ألا أكررها مرة ثانية أوثالثة، حتى لا أكون خارج السرب. كان شيخ المدرسة ينذرني : إياك ثم إياك أن تحمل لوحك وراء ظهرك، وأن تمر بين الأقسام التحضيرية والثانية، وقد تظهر على الشاشات الرقمية العملاقة المعلقة على جدران المدينة، فيسخر منك الفيسبوكيون. لوحك يحمل خطك ونقاطك السوداء، ومراتبك السفلى، وريشة حنظلة، واللوح المحفوظ. البارحة طالعني طيف من مذكرات، قلت هي نزوة عابرة أقتفي أثرها ولا أبالي. اعتقدت، أو هكذا بدا لي، لا شيء يفرق بين هذا و ذاك. شمس الظهيرة ومطعم المسافرين ومحطة الحافلات. نائما مستريحا يتوسد يده اليمنى، ليس بينه وبين الرصيف سوى ملابس خشنة. أشعث، لحيته يتنازعها كل من الأبيض و الأسود، عدل، ونام بعد ليلة باردة، التقى خلالها كل الغيورين على تمشيط شوارع المدينة، من الخارجين عن الطاعة معتقدا أن أمنها استتب و أن طمأنينتها سادت ، فاستراح. وهو يعيد روحه إلى حلقومه، كي تتصاعد أنفاسه على إيقاع الأمل، قلت لحظتها أقف أمام الشمس قريبا منه، ليكون ظلي طمأنينته العابرة، قد يأتي المساء بغتة، و ينصرف ويتركني تائها أبحث عن مظلة ما. كل هذا و ذاك فجأة ... اختفى واللوح ذاته وراء ظهرك، ما عساك تفعل أيها الشقي، حارسك الشخصي يلازمك حتى تنتهي فترة الإشهار، وقد خط على ظهرك» اتصل قبل أن يمر وقت المكالمة ويبدأ العداد «، أما أنا ، فقد حصلت لي أشياء لا أتذكر منها إلا القليل، ثلاثة قرون وستة أيام وأربع ثوان، انجابت، على إثر كل هذا الوقت قلت : لو حان دوري لأحمل اللوح مثلما حمله قبلي أولئك الأبرياء الصغار، ثم غادروا إلى مصائرهم : من أبحر و من امتطى صهوته و من ركب عقله و صب جنونه في تراب الفقدان. نحيا نفس اللحظات، وهي تكرر نفسها، تلك السنة من الزمن العابر، حصلت على جائزة تحمل اسم» جلد الحمار» قصة أطفال، لم أحتفظ بها، بحثت عنها بعد مرور أربعة عقود : داخل الأوطان المنسية التي عفا الدهر عنها في ملتقيات الطرق العامرة بالأهالي الذين يبحثون عن آخر ملجإ لهم وسط الأزقة و الدروب الضيقة التي لا تتسع لشيء في قاعات المؤتمرات و المحافل و الهيآت المصطنعة ... بين كل هذا و ذاك لم أجد لها أثرا، سوى ما تبقى في ذهني من رسوم ديار عاد وثمود. على غلافها الكرطوني حسناء، تكسو جسدها بجلد حمار، تسلمت الجائزة وغادرت ...كانت بداية طريق . أشياء كثيرة تدور في عوالمي الطفولية : الإنسان، وجلد الحيوان، و اللوح الموضوع، الظهر المقوس، الشيخ، والمدرسة... عدت للبحث عن الحسناء في عوالمي الافتراضية، قرأت الحكاية من أولها. الحكاية التي لا تنتهي، الأب يعشق جلد الحمار ... : والزوجة تترك له وصيتها الأخيرة قبل موتها، تقول : أن تظل عازبا مهما بلغت من الكبر عتيا. أشعة الشمس دافئة، محركات السيارات تدوي بضجيجها المألوف، وصاحبي الممدد على الرصيف ينتظر، والشاب حامل اللوح وراء ظهره، تبخر وسط المارة تركت له ابنة حسناء أمرته بتربيتها وعنايتها و حبها، الحب الذي تحول إلى عشق موغل في جحيمه ولذته، بعد أن أزهر غصنها و توردت خداها و برزت مفاتنها ... الحكاية تقول : وجدت الحسناء نفسها بين الماء و النار الحكاية تنتهي حين يزورها طيف أمها و يهمس لها بأن ترتدي جلد حمار الحظيرة وتضع خاتمها المحفوظ، وتهاجر، هكذا هاجرت هاجر حفاظا على وعدها. هاجرت سارة هي الأخرى وضعت زكريا زكريا يبشّر بغلام يحيا يصوم الناس ثلاثا جاءت مريم تحمل شيئا فريا عيسى نبي الله هاجرت حاملة طيف أمها، تائهة وسط الغابات، وصاعدة قمم الجبال، تأكل الفاكهة الموسمية، وتشرب من مياه الجداول المهاجرة إلى الشمال، تقطع المسافات الطويلة ولا تنتهي. المارة : كل يقرأ اللوح بصوته و بابتسامته، والطفل يسير دونما رجعة، و دون أن يلتفت إلى الوراء، هذا هو قانون الإشهار، يمنع عليك التصوير، حقوق الطبع محفوظة للقارئ، التعليق مقدس، و الخبر حر، و لك ما شئت من التأويلات . الهامدون على كراسي مقاهيهم مكفنون في جرائدهم ،و لأن لعبة الكلمات المتقاطعة أصبحت لاغية، فإن من يفوز هو من يحل لعبة السودوكو، في أسرع وقت ممنوح، و يقضي تسع ساعات ممتعة، يَعُدُّ كم من ماسحي الأحذية، و كم من المتسولين، و من المجنونين، و كم وكم ممن قدموا له التحية والنميمة و أخبار الظهيرة... اللعب متنوع والوقت يمر ببطء شديد، و إلى أين المفر، كلما ضلت الحسناء الطريق، تاه حامل اللوح وسط ركام البشر. الملجأ الأخير لا يهم أين. المهم أن تستقطبهم، و أن يتلذذوا بخطوطك العريضة. تأكدي أيتها الحسناء، بأن الأنام أمامك، و أن العار وراءك، و لن يلتقي أي من الثقلين ببعضه أبدا.