يكاد يتهيأ لي دونما حاجة لشطط التخييل،أني أحاول العودة إلى الشجرة الأولى في غابة مهما تكاثفت داغلة في جغرافيا الكتابة،فإنها ليس تستطيع أن تحجب،قيد غصن،هذه الشجرة الوارفة بانسراحاتها الرمزية في الذاكرة؛إنها أشبه بتلكم الشجرة التي يحفر عاشقان متيمان في أرومة جذعها،قلبا مسطورا باسمين،كلما جف رقيمه الشاهد على الحب مع تصرم السنين،إلا ويزداد نتوءًا و رواءً؛مع الفارق أن تينك الإسمين هما؛إسمي (...) وديواني الأول:»ملائكة في مصحات الجحيم»؛ لا تخافوا،فأنا إذ أفرك الفراشات في غصن ذاكرتي،ليس لتطير سحيقا في الزمن،إنما يوم الصدور الأعظم،لما يزل ماثلا قدام عيني كأنه الأمس،و لا تنقص طراوته المهراقة بالعنفوان،قطرة ماء؛إنها مسافة عشر سنوات فقط،وخطت شعري ببعض الرماد الأبيض،دون أن تحول جمجمتي إلى مجمرة صلعاء،كما صنعت بأغلب حملة القلم من جيلي اليوم؛كنت أكثر نحافة في مسافة تلكم العشر سنوات،أي عام 1999،ولكن الروح التي كانت تنبث في جوانحي،ترفعني لأكثر من سبع سماوات،لأجدني أتأبط بكل ما أوتيت من أزهار شر إبداعية،مخطوط ديواني «ملائكة في مصحات الجحيم»،مكتوبا بخط يدي..بل و محمولا أيضا على أقلام رجلي؛و لأنّا لم نكن بعد ممسوسين أو ملسوعين بصعقة الأنترنيت التي قتلت برسائلها الإلكترونية،حتى العبارة الجميلة «شكرا ساعي البريد»،فإني آثرت أن أستقل قطار الليل الذي ليتني أستطيع اليوم،أن أؤرخ بدقاته المتصادية مع شيء لم أكن لأفهمه في قرارة نفسي،لكل لحظة في هذا السفر الملحمي الذي وإن كان قصيرا في المسافة من الرباط إلى طنجة (خمس ساعات وقتئذ مع احتساب التأخير!)،إلا أنه أطول بما كان يخالجني من كثافات حلمية سحيقة،موقوتة بالخوف و التوق و الأمل المجنون؛ وما كل هذا الألم إلا لاقتراف شيء غدا من فرط ما تغثوه المطابع بابتذال ووفرة،يمزقنا بالحسرة:إنه طبع الديوان؛أجل ديواني الأول،لكن مع بون أنه كان في نهاية التسعينيات من القرن الماضي حيث تذوقنا آخر نفس في حصرم الزمن الجميل... انقذفت بكل ما انتسجتُه من أجنحة بمغزل الأوهام في هذه الرحلة للشمال،فوجدتني في المحطة الأخيرة لقطار طنجة،التي كانت زمنئذ بجوار الميناء،تحت سماء لا تزال تتثاءب في غبش الفجر،وعجبت من كوني باكرا لأول مرة في حياتي!؛ هرعت لأقرب مقهى مفتوحة لأرمم خوائي،وما إن رمشت الشمس بأول الخيوط،حتى مضيت أسأل الناس عن مقر دار النشر التي تصدر سلسلة شراع و يديرها الإعلامي المعروف «خالد مشبال»؛ ولم يكن ثمة من شيء يعكرني سوى مجيئي دونما سابق موعد،ولكن الثقة الطائشة في النفس أو بالأحرى في الديوان،كانت تزيدني رعونة بما يثقب الحيطان!؛استقبل الأستاذ «خالد مشبال» بحفاوة طلقة الأسارير،شابا نحيفا،لا يعرف إلا أنه يشتغل صحافيا منذ بضع سنوات في جريدة «العلم»،وله عمود يومي أشبه في انهراقه الحبري ببئر اللغة،اسمه «كلام أقل»؛تناول مخطوط الديوان ووعد بأن تبث في مصيره غير المعلوم،لجنة القراءة الخاصة بالإبداع،و كانت لحسن حظي،تكتنف أساتذة و مبدعين أجلاء،هم:محمد الميموني،حسن المنيعي،بنسالم حميش،حسن نجمي،محمد عز الدين التازي،عبد الجليل الزاوي،عبد الإله كنون و المختار أرقراقي؛و على إيقاع ذات الأسارير الطلقة التي و دعني ببشاشتها مشبال،أطلقت ساقي لأسرح طيلة النهار في طنجة التي مهما علت بأسوارها،فهي تبقى دون منطق الطير الذي استنفرته في دمي ليشاطرني أنخابي الأولى،بما يتجاوز سقف العقل أو حتى السماء؛مضت أشهُر أعترف أنها الأشهَر في حياتي،تدبرت مع تصرمها الأثقل على النفس من كابوس المغاربة المُسمى «بوغطاط»،تقديما طرز ديباجته بحكمة الشاعر و العارف بمعادن الكلم،أستاذنا المبدع «عبد الكريم الطبال»،الذي وسمني في ثريا عنوانه الألمعي،بما زادني مهابة و تواضعا،بحيث أدبرت بكل الحسابات المنفوشة في وسائدها بالأوهام و ليس فقط الأرقام،إلى الصفر؛عساني أستحق يوما أو شعرا ما ،لقب «صائد اللؤلؤ»؛كما ورطت صديقي و زميلي في جريدة «العلم»،الفنان الكاريكاتوري الكبير»العربي الصبان»،ليرسم وجهي من الأذن التي شاء،فاندلقت الصورة من أصابعه الساخرة،كأحد الملائكة الذين في مصحات الجحيم؛إن لم أقل صعلوكا على الطراز الحداثي؛شكرا صديقي الصبان،فمهما ِزغت عن المرآة، فلن أجد وجها أجمل من الذي رسمته دون قناع؛و لن أنسى أيضا صديقي المُترجِم و المُنَمنِم «رشيد أوحتي» الذي أعتق رقبة الديوان بلوحة فاجرة النهدين،حولت الغلاف إلى امرأة تستعر في الجحيم،رسمها فنان أنيق و رشيق اسمه «إدريس زهير»؛ ما الذي تعنيه الشهادة غير أن تتقن الإبرة الإمساك بالتفاصيل من عينها الوحيدة التي تحمل الخيط ،لتبصر رُمة العالم؛لذا أجد عصيا أن أنسى كل الأيادي التي أمسكت بهذه الإبرة كي تحوك معي كائنا ورقيا إسمه: الديوان الأول..الديوان الذي لم أسمع لرُمانة رأسه سقوطا أو أرى لحباتها انتثارا،حتى هاتفني «خالد مشبال» في ماي من عام 1999،قائلا:ديوانك في السوق،وستأتيك نسخ منه عبر إرسالية لحافلات الستيام بالرباط؛لكن فرحي لم يمنعني أبدا من أن أهجس في النفس الأمارة بقلق الإبداع:عجبي، لقد أصدروه دون أن أصححه بنفسي من الأخطاء المطبعية..! بعد يوم أو يومين أو أكثر..لا أذكر،راعني هذا الكائن الورقي الذي لم أنشر أيا من قصائده المكنونة سلفا في جريدة أو مجلة،مبثوثا في كل الأكشاك و المكتبات بالرباط ،بل في كل أنحاء مدن المغرب،لأنه صدر ضمن سلسلة شعبية بثمن بخس (10 دراهم)..أجل كان مبثوثا ينتظر دوره في القراءة؛لتنهمر تباعا قراءات النقاد في الجرائد الوطنية،تستبطنه عميقا بكل الأدوات و المجسات؛فأسبغ عليه،تمثيلا لا حصرا،الشاعر الدكتور «عبد السلام المساوي»،توصيف «الكينونة الثالثة» في أسبوعية «الصحيفة»(1-7 أبريل 2000)؛»وسؤال الذات و توصف الرؤية و نسق التداول و التأويل» للشاعر و الباحث «مصطفى غلمان»؛(جريدة «الميثاق الوطني»،5-6 دجنبر 1999)؛و قراءة للشاعر «محمد بوجبيري»(جريدة»بيان اليوم»،15 نونبر 1999)؛و «رهان المساءلة في ديوان «ملائكة في مصحات الجحيم» ل «محمد بشكار»، للناقد «مصطفى لحسيني» (جريدة «المنظمة»،10 نونبر 1999)؛و «جنون اللغة المحروس باليقظة» للمبدع «عز الدين الماعزي»(جريدة»العلم»،28 يونيو 1999)؛لن أكيل ما يزين ديواني بباذخ المديح،و إن كان الحب الأول يستدر دائما عسل الغزل؛فقط أجزم أن هذا الأثر الشعري،كان قارعا باختلافية العنوان و ما يتنزّل تحت سقفه الملائكي/الجحيمي،من قصائد يندغم في خيالها الرجيم؛المقدس الصوفي بالإيروتيكي الذي لا يجدر أن نعتبره دائما مدنسا،حتى جاء الخبر:نفد الديوان من السوق...! هذه الشهادة حول ديواني الأول:»ملائكة في مصحات الجحيم»،مبثوثة في الكتاب الصادر أخيرا عن وزارة الثقافة المغربية،تحت عنوان:»المنازل الأولى : شهادات كتاب مغاربة حول كتبهم الأولى».