إسرائيل تستهدف قياديا في "حزب الله "    معرض الفرس بالجديدة يواصل جذب الزوار.. و"التبوريدة" تلقى متابعة واسعة    جمارك عبدة تحرق أطنانا من المخدرات    محنة النازحين في عاصمة لبنان واحدة    هل تغيّر سياسة الاغتيالات الإسرائيلية من معادلة الصراع في الشرق الأوسط؟    بايتاس يُشيد بالتحكم في المديونية    انضمام المغرب إلى الاتحاد الإفريقي و"طرد البوليساريو".. مسارات وتعقيدات    مشفى القرب بدمنات يواجه أزمة حادة    طرائف وحوادث الإحصاء    "النملة الانتحارية".. آلية الدفاع الكيميائية في مواجهة خطر الأعداء    بذل عمل جديدة لعناصر الجمارك "توضح تراتبية القيادة" شبه العسكرية    فاتح شهر ربيع الآخر 1446 ه يوم السبت 5 أكتوبر 2024    بايتاس: الحكومة تتابع عن كثب أوضاع الجالية المغربية المقيمة بلبنان    المياه المعدنية "عين أطلس" لا تحترم معايير الجودة المعمول بها    رسميا: فيفا يعلن عن موعد انطلاق مونديال كرة القدم سيدات تحت 17 في المغرب    الحسيمة.. عائلة من افراد الجالية تتعرض لحادثة سير خطيرة على طريق شقران    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    إسبانيا على وشك خسارة استضافة مونديال 2030 بعد تحذيرات الفيفا    أسعار النفط العالمية ترتفع ب 5 في المائة    الملك يهنئ رئيس الحكومة اليابانية الجديدة    "مجموعة العمل من أجل فلسطين": الحكومة لم تحترم الدستور بهروبها من عريضة "إسقاط التطبيع" ومسيرة الأحد تؤكد الموقف الشعبي    مومن: قائمة المنتخب المغربي منطقية    بايتاس: الحكومة تتابع عن كثب أوضاع الجالية المغربية المقيمة بلبنان        مشروع هام لإعادة تهيئة مركز جماعة "قابوياوا"    "درونات" مزودة بتقنية الذكاء الاصطناعي لمراقبة جودة البناء    الركراكي: الانتظام في الأداء أهم المعايير للتواجد في لائحة المنتخب المغربي    فتح باب الترشيح لجائزة المغرب للكتاب 2024    الركراكي يساند النصيري ويكشف هوية قائد المنتخب    حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية تدخل شهرها الأخير    أخبار الساحة        أعترف بأن هوايَ لبناني: الحديقة الخلفية للشهداء!    مهرجان سيدي عثمان السينمائي يكرم الممثل الشعبي إبراهيم خاي    قراصنة على اليابسة    مقاطع فيديو قديمة تورط جاستن بيبر مع "ديدي" المتهم باعتداءات جنسية    عبد اللطيف حموشي يستقبل المستشار العسكري الرئيسي البريطاني للشرق الأوسط وشمال إفريقيا    استدعاء وزراء المالية والداخلية والتجهيز للبرلمان لمناقشة تأهيل المناطق المتضررة من الفيضانات    "جريمة سياسية" .. مطالب بمحاسبة ميراوي بعد ضياع سنة دراسية بكليات الطب    بسبب الحروب .. هل نشهد "سنة بيضاء" في تاريخ جوائز نوبل 2024؟    جائزة نوبل للسلام.. بين الأونروا وغوتيريس واحتمال الإلغاء    إطلاق مركز للعلاج الجيني في المملكة المتحدة برئاسة أستاذ من الناظور    مؤتمر علمي في طنجة يقارب دور المدن الذكية في تطوير المجتمعات الحضرية    الذكاء الاصطناعي والحركات السياسية .. قضايا حيوية بفعاليات موسم أصيلة    القطب الرقمي للفلاحة.. نحو بروز منظومة فلاحية رقمية فعالة        وقفة أمام البرلمان في الرباط للتضامن مع لبنان وغزة ضد عدوان إسرائيل    مندوبية طنجة تعلن عن منع صيد سمك بوسيف بمياه البحر الأبيض المتوسط    المغرب يشرع في فرض ضريبة "الكاربون" اعتبارا من 2025    مستقبل الصناعات الثقافية والإبداعية يشغل القطاعين العام والخاص بالمغرب    مغربي يقود مركزاً بريطانياً للعلاج الجيني    الرياضة .. ركيزة أساسية لعلاج الاكتئاب    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    دراسة: التلوث الضوئي الليلي يزيد من مخاطر الإصابة بالزهايمر    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شكل القصيدة وتحولات المعنى
في الشعر المغربي الحديث
نشر في العلم يوم 22 - 01 - 2012

ليس ثمةَ من شكل محدد للقصيدة، شكل يستطيع أن يقول القائل إنه هو الإطارُ الأنسبُ أو الأسمى للقول الشعري. الشكل في هذا السياق أمرٌ نسبيٌّ. فمنذ أن اهتدى الإنسان إلى القول الذي سماه بعد ذلك شعراً، وهذا القول يتطور من حيث الشكل في مسار منفتح باستمرار على الجديد الذي تتيحه المنعطفات الكبرى في تاريخ الإنسان ووعيه. بل إن المعرفة الشعرية نفسها كثيراً ما شكلت مظهراً من مظاهر تطور الوعي الإنساني ورقيه الفكري. الشعرُ باعتباره صورة للتعبير وإطاراً للكلام يتغير باستمرار. وحتى إذا لم يتغير في بعده المادي لفترة مهما طالت فإن قراءه ومتلقيه يتغيرون، وهذا أيضاً أمرٌ شديد الأهمية فيما نحن بصدده. ذلك أن قيمة الشكل لا تظهر في البعد المادي للعمل الشعري فحسب، بل تظهر في قراءته وتلقيه. والمعنى تبعاً لما تمت الإشارة إليه ليس منفصلاً عن الشكل. إذ على الرغم من أن الكثير من دارسي الشعر ونقاده، ومنذ القديم أيضاً نظروا إلى المعنى باعتباره شيئاً يكاد يكون سابقاً للشكل في الوجود ومنفصلاً عنه، إلا أن تاريخ تلقي الشعر ومسار تطوره يبرز بوضوح أن المعنى أمرٌ إنما يتم بناؤه مع بناء كل عنصر من عناصر العمل الشعري، وأن الدلالة الكلية للقصيدة هي حصيلة أجزائها وقد اكتمل بناؤها الفني من جهة وفهمها الجمالي من جهة ثانية. ولا يضير الدلالة والمعنى في شيء أن يظلا منفتحين على الفهم والتأويل.
تمهيد
الشعر المغربي، في لحظته الراهنة جزء من تاريخ تطوره ومسار تشكله عبر الحقب التي أتيح له المرور بها، وعبر التجارب والآفاق التي أتيح له التفاعل معها والاندماج فيها. إنه حصيلة هذا التفاعل والتلاقح متعدد الأبعاد، أي أنه جزء أيضاً من الشعر في بعده الإنساني. فالشاعر يأتي إلى القصيدة مزوداً بثقافته الشخصية ووعيه الفردي وفرادته، أو تناديه القصيدة فيسعى إليها بوهج ذلك الزاد، وما من أحد يملي عليه في هذا السياق شروطاً أو قيوداً غير قيود الهواجس وعذابات الذات التي تكتمل في القصيدة وشكلها: بعضهم يسميها رؤيةً، وبعضهم رؤيا، وبعضهم عذاباً أو جنوناً، أو صنعةً دونها سهرُ الليالي ومخاتلة الرقباء.
وعلى ذكر الرقباء فإن الشعر منذ البداية جنح إلى قول ما لا يقال في العادة. الشعر خرقٌ للعادة وانزياح عن الخصائص التركيبية والدلالية للغة، في بعدها التواصلي المباشر. قراء الشعر يتواطأون بدءاً على الدلالة الشعرية للغة، على البعد الشعري للكلام، أو هذا ما ينبغي أن يكون. لذلك يصطنع الشاعر أسلوبه، وينحت في اللغة ومنها شكله التعبيري، ليقول ما ينبغي أن يدق في التعبير ويعز على الفهم. وفي كل ذلك ليس الشعر لعباً شكلياً ولا ترفاً لغوياً ولا هذراً. إنما تمس إليه الحاجة أحياناً باعتباره طبعاً مسكن الذات ونشيدها في خضم الأصوات الكثيرة التي للناس والأشياء، وباعتباره سلاحاً في معركة تغيير العالم ونظام الأشياء. وليس بالضرورة أن يكون الشعر أداة للتغيير بقوة قيمته الخطابية ونبرته المباشرة العالية، ولا بأهمية الأفكار التي يتم ضخها فيه، بما في ذلك جرعات الأيديولوجيا ونفحاتها التي لا تخفى. ليس هذا أمراً ضرورياً للشعر كي يكون جزءاً من الوعي باعتباره قوة دفع أساسية للتغيير، إن ذلك، على العكس أمرٌ يضر به كثيراً. الشعر الجميل العميق يغير بالشكل أكثر مما يغير بالفكرة والقضية. ليس ثمة في الشعر من قضية أكبر وأهم من قضية الشكل.
القصيدة والشكل
يبدو للوهلة الأولى، كما لو أن قضية الشكل والمضمون في الشعر، التي طال عليها الزمن من غير حل قد بقيت معلقة في الهواء، على حد تعبير ديفد ديتش1، لكن الأمر ليس بهذه البساطة إلا لمن أعياه تحديد الطرح المناسب والأمثل للمسألة، في خضم الاختلاف الكبير بين النقاد حول قيمة الشعر وغاية الشعراء. ولا شك أن الأفكار ذات أهمية كبيرة في حياة الناس، لكنها في الشعر تكون عادة ممتهنة وغالباً زائفة، وما من أحدٍ تجاوز السادسة عشرة من عمره يجد أن قراءة الشعر لمجرد معرفة ما يقوله يستحق منه أي جهد، كما يقول جورج بواس2. ثم إن المنزع التأملي للشعر الذي يميز بعض النصوص أحياناً ليس بالضرورة قيمة فلسفية خالصة، بل سيكون من المناسب النظر إليه باعتباره تجربة خاصة في الكتابة الشعرية. ففي القصيدة يتم تجميع مستويات التعبير باعتبارها كلها عناصر الشكل المميزة لبنية العمل، بما في ذلك منزعاً أو فكرةً ما. إن الربط بين الشعر والفلسفة يبدو منطوياً على كثير من المبالغة. فإذا كان الأمر مجرد ترديد وتضمين لفكرة ما فما أكثر الأفكار التي يمكن أن تتردد في الشعر من غير أن تخرج به عن حدود منطقه. في القصيدة يتم تحويل الأفكار إلى معان ودلالات شعرية تُدرك عبر الاستعارة والمجاز والصورة، وعبر ما نعنيه بشكل التعبير، في كليته وفي جزئياته. وإذا تجاوز الأمر حدود التعبير الشعري فإنه سيكون بذلك قد خرج عن حدود التجربة الشعرية، وبالتالي، فإنه سيكون من الإجحاف أن يقوَّم بمنطق الشعر. وعلى العموم، فإنه إلى حين البرهنة على انتماء شكل القصيدة إلى بنية التعبير الفلسفي فإن الأمر سيبقى مجرد افتراض. مسار تطور الشعر يختلف عن مسار تطور الفكر، وحتى إذا استدعى الشعر نصوصاً من تاريخ الفكر فإن ذلك إنما يحدث من خلال منطق الشعر ونداءاته الخاطفة، ولفائدة القيمة الفنية والمقصدية التخييلية. تأملات الشعر في النهاية ليست من جنس تأملات الفلسفة، ولو حللنا عدداً من أشهر القصائد الحائزة على الإعجاب بسبب فلسفتها، كما يقول أوستن وارين ورونيه ويليك لاكتشفنا على الأغلب مجرد لغو يتعلق بفناء الإنسان أو قلق مصيره"3. الشعر تجربة خاصة في الكتابة، تجربة منفتحة على أفق التحول باستمرار. يقول ريتشاردز:"تعريف القصيدة بأنها تجربة الفنان يعد حلاً أفضل"4. من هذا المنطلق نحاول أن نؤطر رحلة القصيدة في الشعر المغربي الحديث وتحولاتها، من خلال الإشارة إلى تجارب بعينها.
إن مسار القصيدة المعاصرة في المغرب هو مسار تطورها الشكلي. يمكن أن نتحدث عن ذلك في صورة صراع أجيال شعرية، كما يمكن أن نراه في صورة تيارات وحساسيات أو مجموعات قلما يجمع أعضاءها نفسُ المبدأ والأسلوب. وفي كل الأحوال ليس فكر المجموعة هو ما يصنع الأسلوبَ الشعريَّ، والتيار أو الحساسية لا يعتد بهما في سياق التجارب الشعرية إلا أن ينبثقا من رحم هذه التجارب فعلاً ويتبلورا في خضمها. ذلك أن كل محاولة لفصل القصيدة عن شكلها ستؤدي إلى إصابة الشعر في مقتل. ستؤدي ربما إلى الكثير من الرنين الزائف والبريق الخادع، وهي أمور أبعد ما تكون عن الشعر في صفائه والقصيدة في كونها بالفعل تجربة في اللغة والكلام، وشكلاً للقول يستثمر طاقة كافة المستويات التعبيرية المتاحة.
تحولات المعنى نفسها ينبغي النظر إليها باعتبارها تحولات تقع على مستوى شكل القصيدة. ذلك أن المعنى في القصيدة لا يتحدد بمجرد الملفوظات الشعرية ودلالاتها المباشرة. كما أن قيمة القصيدة لا تتميز بما يمكن أن يستفاد فيها من أفكار، ولو كان ذلك هو المراد لما استحق الشعر أي اهتمام، لأن التواصل من خلاله بين الناس سيعتريه الكثير من العطب وسوء الفهم. في الشعر يصبح للتواصل والفهم مظهرٌ آخر مختلف. يصبح التفاعل قائماً على أساس شكل القول.إن الصفة المميزة للقصيدة في نظر كولردج، هي شكلها الخاص، وهو الذي يحدد وظيفتها ويبرر وجودها"5. والشكل بهذا التحديد ليس سابقاً على تجربة الكتابة، ولا يمكن إدراكه بمعزل عن بنية العمل الفني، إنه، بعبارة أخرى مجموع العلاقات المعقودة بكل عنصر داخل النسق، ومجموع هذه العلاقات هو الذي يسمح لعنصر ما بأداء وظيفته اللغوية"6. هنا يقع التمايز والتفاوت، بما يحقق الفرادة والتميز. فرادة تتجلى على مستوى البناء الذي يعتبر المظهر الأبرز للإحساس بديناميكية شكل الأثر الأدبي، كما يشير يوري تينيانوف7. وعندما نتحدث عن النسق والبناء فإننا نتحدث عن أشياء من قبيل الاتساق والانسجام والانتظام، وعن التوازن والتناسب، وقديماً نبه أرسطو إلى ضرورة التزام الاعتدال في طرق التعبير في الشعر، وكل اختلال في هذا السياق أو طغيان جانب على حساب الجوانب الأخرى تؤدي بالشاعر إلى إنتاج آثار مضحكة8.
وعلى العموم فإن للشكل في القصيدة أهمية قصوى، فما بالك عندما يصبح هذا الشكل محترفاً يعمل عليه الشاعر ليجعله الأمر الأبرز في القصيدة. يقول يوري لوتمان:"وتنظيم الشكل الكتابي للشعر يعتبر من أهم تجليات هذه الخاصية من خواص النص الشعري، ذلك أن تنظيم الكتابة الشعرية يتيح إمكانية رصد عدد من قوانين العلاقة بين البنية الشعرية والبنية اللغوية العامة، ففي أية لغة طبيعية لا تمثل البنية الكتابية- نعني الشكل الخطي- أسلوباً، كما لا تمثل نظاماً تعبيرياً خاصاً، بل هي تطرح نفسها فقط باعتبارها تسجيلاً تحريرياً للصورة الشفوية للغة. أما بالنسبة للنص الشعري، فباعتبار أنه ينهض عموماً على أقصى حد من التنظيم فإنه يعنى كذلك بقرينة الحال ممثلة في دقة الترتيب الكتابي للنص"9. وقد تجلت أهمية تنظيم الشكل الكتابي للشعر المغربي خاصة في أعمال مجموعة من الشعراء، منهم محمد بنيس وأحمد بلبداوي ومحمد الطوبي. لدى هؤلاء أصبح النص الشعري متميزاً في مظهره البصري بدءاً من نوع الخط الذي كتب به، أقصد طريقة كتابة الحروف والكلمات، ثم نسق توزيعها، والأشكال الرمزية والهندسية المرتبطة بذلك. لكن كيف يحدث أن يمتلئ بالمعنى ما لا معنى له في ذاته؟ فالخط، على وجه العموم، كما يشير لوتمان جزء من النظام العام للغة، فهل له بهذا الاعتبار دلالة ما؟ يجيب لوتمان نفسه قائلاً إنه حيثما اقتنصنا في الكتابة الشعرية ما يشير إلى تخطيط مسبق فإن بوسعنا الحديث عن قيمة فنية لتلك الكتابة، على اعتبار أن كل ما يخطط في الشعر لا يكون كذلك إلا لكي يحمل قيمة ما10. ينطبق هذا، كما أشرنا على تجارب مجموعة من الشعراء المغاربة. فمحمد بنيس مثلاً، في إعادة طبعه لأعماله الشعرية يصر على تمييز شكل النص خطاً وطباعة وتوزيعاً، لاسيما بالنسبة لديوان "في اتجاه صوتك العمودي"11. فبمقدار حرص الشاعر على الحديث عن مسألة إنجاز الطبعة الأولى واسم من قام بتخطيطها، نجده أيضاً -بعد إحدى وعشرين سنة- يشير إلى اسم الخطاط الذي أنجز الطبعة الثانية، مع إجراء عدة تغييرات وإضافات مست شكل النصوص أولاً، ومما لاشك فيه أن ذلك مارس تأثيراً واضحاً في تحويل المعنى، وهو ما ينسجم مع تجربة الشاعر ورؤيته للكتابة الشعرية، التي يفترض أن تنفلت من كل مظهر للثبات والجمود.
في سياق حديثنا عن شعرية التحولات في الشعر المغربي، وربما في كل شعر لا تهم فقط اللحظة الراهنة. إنما هو مسار متكامل من التطور، من النجاح والإخفاق، من التحول والجمود. لكل قصيدة أفقها الخاص، لأن لكل قصيدة منطلقها، ولأن لكل شاعر ثقافته ورؤيته وفلسفته في اللغة. لكل شاعر مسكنه في اللغة وحظه منها، ذلك ما يتجلى في شكل القصيدة التي يكتبها كل شاعر. والشاعر باعتباره مبدع قصائد هو لذلك مبدع أشكال. قد يخرج بالفعل من شكل إلى شكل، وقد يستقر في إبداعه على شكل بعينه. والوقوف على ذلك باستقصاء عند شاعر بعينه يعني مساءلة تجربته الشعرية برمتها. كما أن الوقوف على ذلك في شعر أو حقبة كاملة يعني مساءلتها باعتبارها تجربة منسجمة. ليس هناك شكل رديء في الفن إلا ربما من وجهة نظر مؤرخ رديء. كل شكل كان رائداً في وقته وزمانه، لائقاً بالقصيدة في أجزائها وفي بعدها الكلي. ولذلك فشأن القصيدة، كما قال هوراس كشأن الصورة. واحدة تعجبك لو وقفت بالقرب منها، وأخرى تأخذك لو وقفت بعيداً عنها. هذه تحب أن ترى في زاوية معتمة، وهذه تؤثر أن ترى في الضوء لأنها لا تخشى تفحص الناقد الناقب. هذه أرضت الناس مرة واحدة، وهذه تعرض عشر مرات فترضيهم كل مرة"12.
شكل القصيدة التقليدية، أقصد قصيدة الوزن الخليلي والقافية المنتظمة هو الذي يؤطر تلقيها الآن في مقابل القصيدة المعاصرة، قصيدة التفعيلة وما بعدها. الآن أيضاً يمكن أن ننزع سمة الحداثة عن شكل القصيدة التقليدية، لأسباب منها ما يتعلق بتغير النظرة إلى الشكل الشعري نفسه. فقديماً كان كل تجديد يقع ضمن دائرة هذا الشكل الذي أصبحنا ندعوه تقليدياً. والمشكلة لا تكمن في كونه أصبح عاجزاً عن استيعاب المزيد من التجارب الشعرية، بل تكمن في كونه أصبح ربما عاجزاً عن استيعاب إيقاع الأشياء كما تحدث في حياة الناس، وكما تهجس لديهم. أصبح أيضاً عاجزاً عن اللحاق بدينامية التحول التي تعتري نسق الأشياء في الكون، ومنه الكون الشعري، دون أن يعني ذلك أن هذا التحول يسير إلى الأفضل أو الأجمل بالضرورة. وعلى العموم، فمنذ القديم، لم يكن الوزن والقافية وحدهما المعيارين اللذين على أساسهما يتم نقد الشعر وبيان صحيحه من سقيمه. كانت معاني الأغراض أيضاً من القواعد الأساسية للشعر العربي، وعلى أساس ذلك كان يتم تلقيه.
ثم هل استنفذت القصيدة التقليدية بالفعل طاقتها التعبيرية؟ سؤال لم يعد أحدٌ من النقاد يطرحه في مجال المساجلات النقدية، على الرغم من أنه ما يزال لهذه القصيدة أنصارها. من وجهة نظر مؤرخي الأدب، فإن لذلك السؤال كامل المشروعية، في أن يطرح من جديد. لأن مسألة الشكل في الفن مسألة خادعة. إننا لا نستطيع أن نزعم أن الموناليزا أقل أهمية من الجرنيكا، نظراً لأن رسم الصورة الشخصية لم يعد موضة العصر في الفن. لا نستطيع أن نزعم أيضاً أن شعر المتنبي عفاه الزمان، وأن شعر السياب مثلاً أكثر عمقاً منه لأنه أكثر صلة بالإنسان العربي في حياته المعاصرة التي هي حصيلة مسار طويل ومعقد من التطور، لا نستطيع تبعاً لذلك أيضاً أن نزعم أن شعر إدريس الجائي أقل قيمة من شعر أحمد المجاطي ولا أن تجربة محمد بنيس أعمق من تجربة محمد السرغيني. ليس بمثل هذا النوع من الزعم يمكن أن نقوم الشعر أو نحكم على القصيدة. فإن لكل تجربة سياقها ولكل شعرٍ جمالياته، ولكل قصيدة شكلها، ولكل شكلٍ بنياته ومستوياته وأسراره أحياناً، ولا قيمة لشيء من ذلك إلا عبر تقليب الفهم وإعمال التأويل.
شكل القصيدة هو عمقها، هو ماؤها الذي يسقي عروقها عبر مسام الزمان ونبضها الذي يفترض أن يخفق في عقل ووجدان قارئيها ومتلقيها. سؤال الشكل هو سؤال الكيف. لذلك، هذا السؤال كثيراً ما طرحه الشعراء على أنفسهم أولاً. يقول محمد بنيس مثلاً:"كيف أكتب؟ سؤال كنت أصطدم به فور الشروع في كتابة القصيدة. أولاً، عندما كنت أتوقف بين كلمة وكلمة، أو بين بيت وبيت، متأملاً، مكفهر الوجه أو في صدري نغمةٌ تحرق الشفتين. أقضي أحياناً وقتاً، ليلةً، باحثاً عن كلمةٍ وأنا في الطريق إلى بناء القصيدة، في نسق كنت أحسه متحركاً. حركة دورانية. لها الشهوة والزوابع. لايهم بالضبط لأي مكان من البيت كنت أحتاج إلى الكلمة. ربما للبداية. ربما لإتمام الصورة. ولربما أيضاً لأجل قافية(أو ضد قافية) تدلني على جمالية الغرابة. لكن الكلمة التي كنت أبحث عنها كانت تغري بالمزيد من البحث أو بمواصلة الكتابة، ثانيا، عندما كنت في الكلمة أقترب من معنى المستحيل، ما يتعذر تسميته، اللامسمى، ومن العذابات التي عاشها الشعراء، باحثين عن الكلمة. عن الكلمات. في الحالتين أصبحت أتبين معنى الشعر، الذي هو اشتغال على كلمات قليلة، يتحول التعامل معها إلى تجربة، هي في حد ذاتها تجربة التفاعل. كل كلمة في مكانها من أجل صفاء الكلمات"13. عملية الاختيار هاته عملية شاقة لكنها ضرورية، وتصبح لها قيمتها الفنية العميقة، بحيث تسم أسلوب النص عندما ترتبط بتجربة الذات الكاتبة وتعكس رؤيتها وخبرتها الخاصة، لاسيما في الشعر حيث يصعب انتقاء ما يناسب التعبير. فالشاعر يبحث عن الكلمة المعبرة الدقيقة التعبير، وانتقاء الكلمة المعبرة ليس سهلاً"14. وللتدقيق في أمر الشكل وظيفة أساسية هي مقاومة المؤثرات الخارجية التي قد تهب على القصيدة فتؤثر فيها، وقد تداهمها بحيث يطغى صوتها على صوت الشعر. لذلك يربط بعضهم سؤال الكيف بحماية الشعر منها، كما يذكر محمد بنيس نفسه، في قوله: "وسؤال كيف أكتب القصيدة، بتفاعل مع السؤال عن الذات وعن العالم، لم يعد يفارقني. وهو ما منح القصيدة حماية من الأيديولوجيا"15. هذه الحماية هي التي تجعل تجربة الكتابة لا ترتهن بالصراخ الظرفي والأشياء الطارئة، هي التي تجعل القصيدة منتمية إلى أفقها الإنساني الممتد، فتمنحها فرصة أكبر للتفاعل مع أجيال متعاقبة من القراء.
هوامش:
- نص المداخلة التي قدمت خلال المهرجان الوطني للشعر المغربي الحديث بشقشاون(يوليوز2011)، في موضوع شعرية التحولات.
1 - مبادئ النقد الأدبي، ديفد ديتش، ترجمة د. محمد يوسف نجم، مراجعة د.إحسان عباس، دار صادر، بيروت1967، ص:156.
2 - نقلاً عن نظرية الأدب، أوستن وارين ورونيه ويليك، ترجمة محيي الدين صبحي، مراجعة د. حسام الخطيب، منشورات المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، دمشق1972.ص:141.
3 - نظرية الأدب:142.
4 - مبادئ النقد الأدبي، ريتشاردز، ترجمة إبراهيم الشهابي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق2002، ص:221.
5 - مبادئ النقد الأدبي، ديفد ديتش:172.
6 - بنية اللغة الشعرية، جان كوهن، ترجمة محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال، الدار البيضاء 1986، ص:27-28.
7 - مفهوم البناء، يوري تينيانوف، ضمن نظرية المنهج الشكلي، ترجمة إبراهيم الخطيب، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، الرباط1982، ص:77.
8 - فن الشعر لأرسطو، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الثقافة، بيروت 1973، ص:62.
9 - تحليل النص الشعري، بنية القصيدة، يوري لوتمان، ترجمة محمد فتوح أحمد، دار المعرف، القاهرة1995، ص:106.
10 - نفسه: 110.
11 - صدر هذا الديوان في طبعته الأولى عن مطبعة الأندلس بالدار البيضاء1979، وانظر الأعمال الشعرية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2002، ص:1/237.
12 - فن الشعر، هوراس، ترجمة لويس عوض، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة1988، ص: 134.
13 -الأعمال الشعرية، محمد بنيس:12-13.
14 - دفاعاً عن فن القول، عبد الكريم غلاب، دار الفكر المغربي، الرباط1972، ص:41.
15 -الأعمال الشعرية، محمد بنيس:19.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.