تحت عنوان "الواقعية تطلق رصاصتها الأولى على هذه الحرب الجنونية" ، كتب سيمون جينكينس ، المعلق بصحيفة «صنداي تايمز»، مقالا قارن فيه بين تكلفة الحرب على الإرهاب والأزمة المالية، متوقعا تأثير تكاليف الأزمة على مسار الحرب في أفغانستان، وداعيا إلى سحب القوات الغربية من ذلك البلد. وبهذا السؤال: هل مواجهة أزمة الائتمان ستكلف أكثر من الحرب على الإرهاب؟ استهل مقاله, متسائلا هل انهيار الأسواق المالية سيؤدي إلى إنهاء الحرب العسكرية على الإرهاب؟ فتكلفة حربي أفغانستان والعراق ، لا تزال تفوق تكلفة خطط إنقاذ الأسواق المالية في الأسبوعين الماضيين وبفارق كبير, فقد قدر الاقتصادي المعروف ، جوزيف ستيغليتز ، تكلفة الحرب على العراق بثلاثة تريليونات دولار, آخذا في الاعتبار قيمة الأرواح التي أزهقت وفرص الاستثمار التي أهدرت. لكن حتى الأرقام الرسمية تقدر المبلغ بحوالي تريليون دولار, ويقدر مجهود الحرب البريطانية بحوالي عشرة مليارات جنيه, ينضاف إليه 3.5 مليارات جنيه أخرى هذا العام فقط. هذه المبالغ قد تبدو "زهيدة" خلال عقدي الثراء اللذين عاشهما الغرب مؤخرا, لكن مع انهيار الميزانيات الوطنية, فإن مثل هذه التكاليف لم تعد ببساطة أمرا يطاق. وهذا هو الذي يفسر الاندفاع الحالي نحو الواقعية, إذ توصل الأميركيون يوم الأربعاء الماضي إلى مسودة اتفاق مع حكومة نوري المالكي في العراق تقضي بوضع القوات الأميركية تحت السيادة العراقية بحلول نهاية هذا العام, على أن تغادر هذه القوات العراق, بطريقة أو بأخرى, بحلول العام 2011. وكان البريطانيون قد أيدوا تصريح المالكي بأن قوات بلادهم 4100 جندي "ليسوا ضروريين" وسيرحلون كذلك في وقت قريب, ربما العام القادم. فكما يقع غالبا في التاريخ, ها هي قوة غازية استنزفتها دوامة الاحتلال تبحث عن حيلة تمكنها من إعلان الانتصار والاستعداد للانسحاب, وهذا ما توفره الحملة الرئاسية الأميركية الحالية، إذ استغلها المرشح الجمهوري للرئاسة جون ماكين ليعلن أن الحرب في العراق "ناجحة"، وأن خطة زيادة القوات الأميركية هناك أعطت "انتصارا", لأن الأغلبية الساحقة من الناخبين الأميركيين تريد الخروج من العراق, بل إنها عثرت على جنرال هو ديفد بتراوس تعتقد أن باستطاعته تحقيق تلك النتيجة. فزيادة بتراوس قوات بلاده في العراق ، وجمعه الدقيق بين النشاط العسكري المكثف، والتحالفات التكتيكية مع الأعداء، والدبلوماسية الهادئة مع السياسيين الشيعة، آتت أكلها في تحجيم الاستنزاف, خاصة أن الفوضى التي شهدها العراق بين عامي 2005 و2007 لا يمكن أن تستمر. وقد حقق بتراوس نوعا من التنظيم, إذ إن المرء يصاب بالذهول وهو يرى ضياع هذا العدد الهائل من الأرواح وإهدار كل هذه الموارد حتى قبل أن يختبر إحساسه العام. لكن تسريحه ل80% من قوات الصحوة العراقية، ينطوي على مخاطر جمة, لأن حركة المتمردين شمال الموصل وعلى حدود كردستان تنذر بالشؤم, حيث المسيحيون والأقليات الأخرى يلاحقون ويجبرون على النزوح عن منازلهم ويقتلون. فالعراق لا يزال ثاني أخطر بلد في العالم بعد الصومال، وبناه التحتية لم تعد بعد إلى المستوى الذي كانت عليه قبل الغزو, فقليلا ما كان هناك شيء يمكنه أن يعكس العجز الغربي مثلما يعكسه الوضع في العراق, إذ لم يعد بمقدور الناخب الأميركي ولا الشخص العراقي تحمل المزيد, وما يهم الآن هو كيفية سحب القوات من هذا البلد بطريقة معقولة نسبيا. والأدهى والأمر هو أن دروس وعبر العراق الموجعة لم تستخلصها بعد قوات الناتو والقادة العسكريون الأميركيون في أفغانستان, وحتى حملة المرشح الديمقراطي الرصينة إلا في هذه القضية لا تزال في حالة نكران فيما يتعلق بهذه الحرب. فنفس الروح العدائية ضد المتمردين والاستخدام المفرط للضربات الجوية تغذي التمرد وتعتبر عامل جذب للإرهابيين من كل أنحاء العالم. وغدت التصريحات المتحمسة للجنرال سير ديفد ريتشاردز، القائد السابق لقوات الناتو بأفغانستان عام 2006 ، أوهاما من الماضي, فقد تحدث آنذاك عن كسب القلوب والعقول, لكن المقارنة الصحيحة لهذا الصراع هي مقارنته مع حرب فيتنام, والحديث الآن هو عن ضرورة زيادة القوات لبسط الأمن, وكما في فيتنام كان الحديث اليومي عن أعداد القتلى وعن اغتيالات زعماء العدو للإيهام بأن النصر وشيك. فالسياسة في أفغانستان غدت حمقاء, ونتيجة لذلك يقوم الناتو ولو بتثاقل وألم ، برسم سيناريو للانسحاب, حتى خلف غيوم دخان تعزيز قواته في أفغانستان. والكلمة السرية هي "نحن مجبرون على التفاوض مع طالبان", فهذا الكيان الغامض هو في الواقع تحالف عشائر وتجار مخدرات تجوب الحدود مع باكستان, وصورتها التي كانت مرعبة في السابق تحسنت بما يصفها به متحدثو هذا التحالف من أنها محنكة وجيدة في العلاقات العامة فضلا عن كونها جاهزة لجلب الأمن والنظام لشرقي البلاد وجنوبيها. طالبان أصبحت فجأة الحل وليست المشكلة, وأتساءل عن المدة التي يحتاجها تنظيم القاعدة للوصول إلى هذه المكانة الغريبة, مكانة كانت تتمتع بها في ثمانينيات القرن الماضي خلال حربها جنبا إلى جنب مع وكالة الاستخبارات الأميركية ضد الروس. ولن تنعم أفغانستان أبدا بالأمن ، ولا باكستان بالسلم ما لم تنسحب القوات الغربية, وحتى ذلك قد لا يكون كافيا, إذ سنكون قد تركنا بلدا آخر أشلاء. فعلى الغرب أن ينسحب من أفغانستان ويصون ما أمكن من كرامته، وبعدها يمكنه أن يرتب بيته الداخلي.