سواء أتعلق الأمر ببلاغ وزارة الداخلية المغربية، أم ببلاغ تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي ("قاغاس") التي نفت من خلاله أي علاقة تنظيمية بخلية آسفي الإرهابية، أم بتحليلات المراقبين الصحفيين المغاربة، وكيفما كانت الغايات المتعارضة لكل طرف من هذه الأطراف في تحديد أو تقدير الأصول التنظيمية للفعل الإرهابي الذي ضرب مقهى أركانة بمراكش في 28 أبريل 2011، تتفق كل هذه الأطراف على القول بأن الأمر يتعلق باجتهاد وجهاد من صلب المبادرة الشخصية لأصحاب ذلك الفعل، وإن كان الجميع متفقا كذلك، بما في ذلك بلاغ تنظيم ال"قاغاس"، على العلاقة الفكرية المتينة التي تربط تلك الخلية ليس فقط مع هذا المستوى التنظيمي أو ذاك من السديم الجهادي، ولكن مع الفكر الجهادي بصفة عامة. وإذا كانت بعض التحليلات تذهب في تقديرها لدلالات بلاغ ال"قاغاس" إلى حد القول بأن "مسار الإصلاح السياسي الذي انخرط فيه المغرب ... والتحولات التي تشهدها دول عربية أخرى، كمصر واليمن وليبيا، قد دفعت تيارات القاعدة في المنطقة إلى الكمون والنأي عن القيام بكل ما من شأنه التشويش على مسار الإصلاح وتقديم المبرر للأنظمة لاعتماد سياسات القمع الشامل في مواجهة مطالب الإصلاح " (افتتاحية يومية التجديد: 09 ماي 2011)، ذاهبة بذلك إلى حد استنتاج كون القاعدة حريصة على نجاح الإصلاحات الديموقرطية في الفضاءات التي تنشط فيها، فإن السؤال الذي يفرض نفسه يتعلق بدلالة واقع الاستقلالية التنظيمية الهرمية والتمويلية لعمل الخلايا الإرهابية في المغرب وغير المغرب، مما لا ينفي، طبعا، وجود تنظيمات على المستوى العالمي والجهوي، هو السؤال الأتي:ما هي الدلالة السوسيو- ثقافية لقدرة العمل الإرهابي على الاستقلالية التنظيمية؟؛هنا يأتي دور القول والكلمة، أو ما نسميه اليوم ب"الخطاب" في علاقته بالفعل ونوعية الفعل، أي ما كان يعبر عنه في الفلسفة الإغريقية الأفلاطونية بالعلاقة بين اللوغوس (Logos أي "اللفظ") والبراكسيس (Praxis أي "الفعل")، وما عرف في الفلسفة الماركسية بالعلاقة بين الأيديولوجية وواقع الممارسة. وعلى مستوى الفعل الأول يقول التنزيل بأن الله الفعّال لما يريد، إذا ما أراد شيئا فإنما يقول له كن، فيكون؛ ولم يقل بأن المباشرة بالممارسة هي مصدر الفعل. فالفعل في أصله الأول متولد عن القول الذي إنما يترجم فكرا (idée)؛ والفكر يؤطر الإرادة؛ ومنه "الفكرولوجيا" أو "الأيديولوجيا". فالأيديولوجيا فاعلة في الواقع في جدلية متينة، وذلك في خلاف دوغمائي مانوي، سوفيسطائي عمن هو الأول، أهي البيضة أم الدجاحة؟ وعلى كل حال، فإن إنجيل متى يبدأ من جهته بالقول: ("في البدء كانت الكلمة (...). بها كان كل شيء؛ وبغيرها، ما كان ليكون شيء مما كان". يوحنا: 1-3). وإذ كان "كل مولود يولد على الفطرة ..." (حديث نبوي)، فإن من بين معاني ذلك أن ما تُحشى به أدمغة النشء أمرٌ فعال في توجيه أفعاله، في جدلية مع محيطه الخارجي، وفي تفاعل مع سيكولوجية الأشخاص، المتفاعلة بدورها مع ظروف نشأة كل فرد. والحالات السيكولوجية عوامل تجمع وتؤلف بين الأفراد، كما تجمع وتؤلف بينهم الأيديولوجيات والوضعيات الاجتماعية، على اختلاف قوة كل من تلك العوامل في بناء نسيج شخصيات الأفراد. فإذا كان شبان درب طوما ودوار "السكويلة" ممن نفذوا إرهابيات 2003 بالدار البيضاء، وكذا "مول سبرديلا" و"مول سبّاط" و"مول لمحلابا" ينتمون إلى هوامش متفاوتة من الفقر في المجتمع المغربي، فإن الأمر غير ذلك بالنسبة للمجاطي ولزكرياء موساوي من المغاربة الذين انخرطوا تنظيميا وبشكل مباشر في هرمية شبكة تنظيم القاعدة مما له علاقة بوقعة الحادي عشر من سبتمبر 2001، وكذلك الأمر بالنسبة للسعودي محمد عطا، البطل المباشر للوقعة؛ وبالنسبة لزعيم القاعدة نفسه على الأخص، وبالنسبة لكثير من مثاله من زعماء أيديولوجيات العنف "الثوري" قبله (كاسترو، غيفارا)، ممن ورثوا المال فوظفوه في ما شحنت به أدمغتهم من أفكار في علاقة مفعولها بسيكولوجياتهم الخاصة. وبخصوص علاقة الخطاب الأيديولوجي الدوغمائي المعين بسيكولوجة الأفراد، قوميا أو فاشيا كان ذلك الخطاب أم شيوعيا، أم دينيا، يجدر أن يتم الوقوف، في حالات الأشخاص المتورطين في الإرهاب الحالي بالمغرب مثلا، على صفة "الانطوائية" مع "المواظبة على الصلاة" في نفس الوقت و"النرفزة" و"صعوبة التواصل مع الغير"، إلى غير ذلك من كل ما تتردد باطراد في التحقيقات الصحفية التي تتقفى بروفيلات أغلبية الأشخاص المتورطين في العمليات الإرهابية. معنى هذا أن الظاهرة الإرهابية معقدة، يتداخل فيها الاجتماعي والثقافي والسيكولوجي؛ لكن الخيط الرابط بين تلك العناصر المتداخلة هو عنصر نوعية الفكر الأساسي الذي يحشى به ذهن المولود على الفطرة. فهو الذي يحدد الكيفية التي يتجاوز بها الأفراد ما قد يتميزون به من مصاعب اجتماعية و/أو سيكولوجية، فيصعّدون رغباتهم وإراداتهم في وجه تلك العقبات إما على شكل إبداعات متفاوتة في العمل اليومي والإقبال على الحياة، أو في الفن، أو الرياضة، أو الاستثمار، أو العلم، أو غير ذلك من مختلف مظاهر تأكيد الذات وإعطاء الحياة معنى، وإما بشكل تصبح به تلك المصاعب بالنسبة إليهم عقبة أمام مشاطرة غيرهم في إعطاء الحياة معنى، وتستحيل لديهم إلى أحزمة ناسفة غير مرئية، وقنابل لتدمير الحياة بدءا بحياة صاحبها (إرهابي أكادير ذبح نفسه واقفا، وإرهابي طنجة قطع أوردته ثم بقر بطنه أمام أخته وزوجته)، فيكون الفكر الأيديولوجي حينئذ إطارا لتحويل مصدر المتاعب (transfert) ولإعطاء معنى لنزوات رفض الحياة بتدمير الذات والغير. التعامل مع ظاهرة الإرهاب ولعل إدراكا معينا لهذه الأوجه المتداخلة لكيمياء عناصر الظاهرة الإرهابية ولدور الفكر والخطاب فيها، هو ما جعل توفيق بوعشرين (افتتاحية "أخبار اليوم": 7 ماي 2011) يعلق على العناصر الإخبارية المواكبة لاعتقال أفراد خلية آسفي بالقول: ((هذا مؤشر خطير على أن تنظيم القاعدة له قدرة كبيرة على خلق أذرع له في أماكن عدة بدون وجود أي اتصال أو تنظيم أو تخطيط. القاعدة صارت فكرا جهاديا (...). وحتى عندما تلقي الأجهزة الأمنية القبض على المتورطين أو على خلاياهم الصغيرة، فإنها تعتقل مجموعات معزولة عن بعضها، لكنها لا تعتقل الفكر المتطرف الكامن خلفها، والذي ينتقل من واحد إلى آخر بلا حدود وبلا قيود. (...) لذلك فإن المطلوب اليوم وغدا ليس فقط رؤوس هذه الخلايا الصغيرة والمتفرقة، ولكن رأس البيئة التي تنبت مثل هؤلاء الأفراد ... البيئة الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية)). وبخصوص عامل البيئة الدينية، فإن تحليل مصطفى الخلفي الذي اعتبر بأن تنظيم تيارات القاعدة قد التزمت بعدم التشويش على الحركات الإصلاحية الجارية، فإنه يضيف قائلا: ((هذا يعني أن التحدي الإرهابي بالمغرب لم يعد تحديا أمنيا مرتبطا بتنظيمات ومجموعات بقدر ما انتقل إلى حالات فردية غير متحكم فيها من أية جهة، في الوقت الذي انحسر فيه خطر التنظيمات المهيكلة (...)؛ مما يضع المغرب أمام تحدي المراجعة العميقة لاستراتيجيته في مواجهة الإرهاب (...)، ومما يقتضي إعادة النظر في سياسة التأطير الديني بما يمكّن من مواجهة جذور التطرف، واعتماد سياسة المصالحة مع المعتقلين ضحايا قانون الإرهاب، ومواصلة السياسة التي انطلقت بإفراج 14 أبريل الماضي، باعتبار ذلك مدخلا لتصفية إرث ساياسات ما بعد 16 ماي 2003)). الحقيقة هي أن هذا الطرح الخاص لمفهوم "التأطير الديني" في علاقته بخطاب الإرهاب وجذوره الفكرية طرح سياسي مباشر بامتياز ومغرق في تلويحات سياسة الظرفية؛ ومفاد تلك التلويحات هي عرض سياسي ودعوة إلى تفويت "التهدئة الدينية" لطيف معين من التنظيمات السياسية لتشكل منها ورقة عملها السياسي. ذلك أن معالجة الفكر بصفة عامة ليست من مهام جهاز الدولة إلا من حيث مسؤوليتها عن برامج التربية والتعليم الرسمي، التي تؤثث ذهن كل مولود على الفطرة بهذا النوع أو ذلك من المضامين الأساسية التي تصاغ على هدي خطاطتها بعد ذلك كافة تصوراته الفرعية للواقع وللتعامل معه. إن معالجة الفكر في المجتمعات التي تنعم اليوم بنصائب متفاوتة من الفكر السلمي الديموقراطي قد انطلقت من ثورة فكرية دشنها الإصلاح الديني الذي قام به رجال الفكر الديني أنفسهم في وجه المؤسسات الدينية نفسها (الكنيسة) وبالدرجة الأولى، وليس في وجه الدولة كدولة، والذي أفضى على مستوى الفكر إلى ما عرف في التاريخ ب"فكر الأنوار" الذي طور الدولة وأهل الكنيسة للتعامل مع التاريخ بما يساعد على الحياة بجميع أبعادها المادية والروحية بدل الاصطدام مع هذا المظهر أو ذاك من مظاهرها؛ كل هذا قد أنجزه الاجتهاد الفكري وليس المفاوضات السياسية. وإذا كانت التصفية السياسية لملف الاعتقالات بصفة عامة، مما ليس له تعلق مباشر بحقوق الضحايا، أمرا مشروعا بالنسبة للطرفين، فإن "التهدئة السياسية"، التي ينشدها الجميع، ليست في حد ذاتها مدخلا لاجتثاث الجذور الفكرية للإرهاب. [email protected]