لم تتسع مساحة العمود الأسبوعي الماضي للاستفاضة في الحديث عن الموضوع المثار فيه المتعلق بدواعي إصدار قرار العفو الملكي الذي استفاد منه المعتقلون السياسيون والاسلاميون، وخلف العمود ردود فعل كثيرة استضافها بريدي الالكتروني. فريق كبير من الغاضبين وأغلبهم من رجال ونساء القضاء الذي أعتبر أن طريقة معالجة الموضوع وزاوية النظر إليه لم تكن سليمة وتميزت بالغلو، بيد أن فريقا آخر من المناصرين، وكان أكثر عددا، اعتبر أن إثارة الموضوع بتلك الطريقة كانت ضرورية، وكثير منهم استدل على ذلك بأن الموضوع أثير في نفس اليوم وبنفس الطريقة في أربع جرائد. والحقيقة أن ردود الفعل هذه فرضت علي العودة إلى الموضوع في عمود اليوم، لاستجلاء حقائق ومعطيات أخرى قد تساعد على تحقيق مزيد من الاقتناع. شخصيا، لست قاضيا، ولا فقيها في عالم القضاء المتشعب، ولست خبيرا في مجال القوانين المتشابك، فأنا مواطن بهوية صحافية من حقه أن يلاحق الأحداث بالتحليل أو على الأقل بالتساؤل، وأترك للمتخصصين في القضاء والقوانين التوصيف القانوني لهذه الانشغالات. فلقد اعتبرنا في السابق أن المغرب حقق فتحا مبينا من خلال إنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة، وكذا عبر النتائج المؤهلة التي حققتها هذه الهيئة والتي خلفت رجة ليس في المغرب فقط بل في المنطقة العربية والعالم الإسلامي وفي كثير من أصقاع المعمور، ووقع ما يشبه الإجماع في العالم على أن المغرب نجح في امتحان تجريب العدالة الإنتقالية. وأعتقد أن أهمية هذا الإنجاز الحقوقي التاريخي الذي تحقق في عهد جلالة الملك محمد السادس وبإشراف من جلالته، لا يمكن أن نقتنع بأنها تكمن في جبر أضرار الماضي، بتعويض الضحايا وتوفير العلاجات الطبية لهم، هذا مهم لكنه لم يكن الأهم فيما قامت به هيئة الانصاف والمصالحة، بل الأهم والأساسي في ذلك هو إلحاح توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة على تحصين بلادنا ضد جميع المخاطر التي قد تعيد إنتاج نفس المظاهر والأسباب التي أنتجت الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وهذا ما يتضح في الإجماع الجديد الذي تحقق فيما يتعلق بدسترة توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة. من العبث التسليم بأن بلادنا يجب أن تكون مدعوة بعد مرور مدة معينة، إلى تشكيل لجنة أو هيئة جديدة للمصالحة حين يفرز الواقع انتهاكات جديدة، ونكون في كل مرة مدعوين إلى حمل مكنسة لتطهير الحقل الحقوقي والسياسي من الأزبال التي قد تكون تراكمت، وجدوى العدالة الانتقالية تكمن في نقل المجتمع من مرحلة انعدام شروط سيادة هذه العدالة إلى مرحلة تعيش وتحيى فيها هذه العدالة بصفة طبيعية وتلقائية، العدالة الانتقالية ليست ممحاة نمحي بها ممارسات ومظاهر لنفسح المجال لوجود ممارسات ومظاهر أخرى. لذلك حينما يصدر قرار للعفو على معتقلين في قضايا كان لها ارتباط بالمجالات السياسية والحقوقية لابد أن ندق ناقوس الخطر، ليس على قرار العفو الذي يعتبر من صلاحيات الملك الدستورية والذي نؤكد في شأنه أنه كان ضروريا واكتسى أهمية بالغة جدا في تعبيد الطريق نحو تحقيق انفراج حقيقي، ولكن خوفا من أن تصبح آلية المصالحة والإنصاف ذات طبيعة دورية نكون مضطرين لإعمالها كلما أحسسنا أن طاقتنا الاستيعابية من الخروقات والانتهاكات لم تعد قادرة على الاستيعاب، ولابد من التفريغ، وأن حمولتها من الأخطاء لم تعد تحتمل، ولابد من الإفراغ، بمعنى أن تتحول العدالة الانتقالية إلى إجراء إطفائي. وحينما نبحث في عمق هذه الاشكالية نجد أن ضابطة قضائية لم تتعامل بمهنية، وأن قضاء وجد أمامه متهمين ومحاضر ومحجوزات إثبات ليصدر أحكاما معينة، ليتضح فيما بعد أن البلاد كانت بصدد إعادة انتاج ماهي تعاند اليوم من أجل أن تتجاوز مخلفاته الرهيبة. bakkali _alam @ hotmail.com