يعد الخطاب الملكي الأخير ل 9 مارس الماضي خطابا تاريخيا على مختلف المستويات الدستورية ، سواء تلك المتعلقة بالهوية أو المتعلقة بالحقوق والحريات العامة أو المتعلقة بفصل السلط أو غيرها ، وإذا كان المغاربة بمختلف قومياتهم ابتهجوا لمضامين الخطاب ، فإن المواطنين الأمازيغ والصحراويين بشكل خاص ابتهجوا مرتين اثنتين: أولاهما لكون جلالة الملك بادر إلى عرض مضامين هامة أولية لمشروع دستور ديموقراطي طال انتظاره بمضامين مصيرية هامة ، وثانيتهما لكون الأمازيغ المغاربة ستنتقل لغتهم والتي هي لغة المغاربة جميعا إلى مستوى الدسترة ، بعد عقود عديدة من التهميش والتحاشي والتلف والتلاشي ، وهو ما يصدق في حق النقلة النوعية للثقافة الحسانية. لقد سجل المغاربة أن المطالبة بالارتقاء باللغة الأمازيغية من مستوى اللهجة إلى مستوى اللغة المعترف بها قانونا ، بدا واضحا بشكل مبكر من طرف الجمعيات الأمازيغية مشكورةً ، من منطلق كون الهاجس الأساسي من نشوئها ، هو الدفاع عن اللغة الأمازيغية استنهاضا لها كأحد مقومات الهوية المغربية الأساسية ، وفيما بعد من طرف الجمعيات الحقوقية من منطلق كون النهوض باللغة الأمازيغية هو دفاع عن هوية ولغة إحدى قوميات الشعب المغربي ، التي طالما سادت لقرون عديدة إلى حين ترسيم اللغة العربية بشكل قانوني ابتداء من العهد المريني. إن الأحزاب السياسية كانت آخر فاعل سياسي بدأ يولي عنايته الحقيقية والجادة للشأن الأمازيغي، وذلك ابتداء من التسعينيات في إطار الانفتاح الذي شهده النظام على المعارضة السياسية لأحزاب الكتلة الديموقراطية ، دون إغفال أن الدولة ساهمت في إنشاء بعض الأحزاب بهوية أمازيغية ، زُجّ بها بشكل مبكر في الحقل السياسي لأغراض واضحة ، ابتغاء سحب البساط من تحت أقدام حزب الاستقلال، الحزب المستقطب لمختلف مكونات المجتمع المغربي في العالمين الحضري والقروي، ولقد اعترفت أحزاب الكتلة الديموقراطية في مؤتمراتها في العقد التسعيني بضرورة الاعتراف بالمكون الأمازيغي، كأحد أركان الهوية المغربية وبضرورة إيلاءه العناية اللازمة تأهيلا له وتطويرا لمقوماته من أجل إحداث النقلة المجتمعية النوعية المنشودة، حيث لم يعد يرض الفاعلون الديموقراطيون أن يسير المغرب بسرعتين: سرعة متقدمة لمغرب منطلق اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وسرعة بطيئة أومتباطئة لمغرب في الظل، لا يزال يُتعامل معه بلغة غير لغته وبثقافة غير ثقافته وببرامج تنموية في التعليم والثقافة والإبداع الفكري لا تساير خصوصياته ولا تنمي هويته ولا تدفع به إلى مدارج المغرب المنشود. لقد شكل الخطاب الملكي التاريخي في حينه بأجدير بتاريخ 17 أكتوبر 2001 ثورة نوعية حقيقية ، حينما ألح جلالته على العناية باللغة الأمازيغية كمُكوّن أساسي للثقافة الوطنية في إنجاز المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي القائم على تأكيد الاعتبار للشخصية الوطنية ورموزها اللغوية والثقافية والحضارية، وهو ما سمح بانتفاضة حقيقية لكل الفاعلين السياسيين والجمعويين المؤمنين بالقضية الأمازيغية ، بما فيها رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان السابق ،حينما أعلن عن تأخر المغرب في الاعتراف بالحقوق اللغوية والثقافية ، داعيا الدولة إلى اتخاذ»التدابير التشريعية والإدارية والمالية والقضائية اللازمة من أجل تطبيق هذه الحقوق تطبيقا تاما وعبر إجراءات دقيقة تضمن تمتع المواطنين بحقوقهم الثقافية «، خاصة بعدما قدم المغرب في منتصف غشت الماضي تقريرا هاما أمام لجنة القضاء على التمييز العنصري بجنيف في دورتها 77 ، تعهد فيه بالعمل على القضاء على مختلف أنواع التمييز العنصري. يعد خطاب 9 مارس الأخير ثورة ملكية ثانية بعد مرور 10 سنوات على خطاب خنيفرة الذي لم تقو الدوائر المسئولة على تحقيق الأهداف المرتجاة منه ، حيث حث المرتكز الأول لخطاب جلالته على «التكريس الدستوري للطابع التعددي للهوية المغربية الموحدة الغنية بتنوع روافدها ، وفي صلبها الأمازيغية ، كرصيد لجميع المغاربة»، مما لم يعد معه على حزب أو جمعية ما أو فاعل ما أن يحتكر الحديث بمفرده عن القضية الأمازيغية ، والعمل على منع غيره من الدفاع عنها ، وهكذا فجميع الأحزاب المغربية استفاقت من غفلتها أخيرا وطورت خطابها السياسي بهذا الشأن ، ولم يعد معه على الجمعيات الأمازيغية سوى التصفيق لهذه القفزة النوعية والتنويه بها ، عوض الاستمرار في رجمها بالغيب والتنكيل بها ، لكون الأمازيغية هي قضية مجتمعية وليست قومية أو فئوية ، تنتظر إسهام الجميع دون الشعبوية الضيقة لبعض الأمازيغيين المتطرفين، أسوة بقضية الإصلاحات الدستورية التي لم تكن العديد من الأحزاب وخاصة الإدارية منها ، تقوى على المطالبة بها ، إلا ابتداء من خطاب 9 مارس الأخير. إن مما يؤسف له وسط العمل الجمعوي الأمازيغي هو استمرارية تعصب البعض منها أكثر من اللازم وبكل شوفينية أثناء تقديمه لمقترحاته والإعراب عنها بهذا الشأن، سواء أثناء التظاهر في الشارع أو في منتدياتها، حيث لوحظ استغلال مناسبة الإصلاح الدستوري لرفع سقف مطالبها، التي طالما نادت بها في الثمانينيات والتسعينيات ، بتقديم مطالب تعجيزية مرة واحدة في سلة مقترحاتها، متهجمة على النظام السياسي القائم حينا من خلال التشكيك في ثوابته ، حاقدة على الأحزاب السياسية حينا آخر، متعالية ورافضة لباقي القوميات المجتمعية مرة ثالثة ، مدعية التفوق الجنسي والقومي إلى غير ذلك من الاختلالات التي لن تكون في صالح الأمازيغية ذاتها ، مما يجعلنا نشم منه رائحة أجندة غير وطنية شرقية أو غربية، وهو ما يتعين الحذر منه قبل فوات الأوان ، لأن الدولة ذاتها كان ينبغي أن ننتظر مرور ستة عقود كاملة لتصل لها القناعة الحالية بشأن الأمازيغية.