مما لا شك فيه أن حياة الإنسان تنبني على التواصل والتعارف، وعلى مدى تأثير فروع التربية التي يتلقاها الفرد منذ نعومة أظفاره حتى آخر يوم من حياته، والتي تنمي فيه ملكة تحرير الروح من الشوائب التي تتحين الفرص لتعلق بها فتسيء لمساره وطموحه، الشيء الذي يؤهله للقيام بالدور المنوط به كعضو فاعل داخل منظومة مجتمعية تنشد الاستقرار والعيش الكريم. وعندما ينطلق الإنسان من هذا المعطى، يعلم عندئذ أن المقصود من التعارف والتواصل هو الاندماج والتأقلم مع مقومات المحيط الذي وجد فيه، وليس الدخول في جدال ومعارك مع القريب والبعيد على السواء، ولا حاجة لإكراه في رأي، أو تجبر في سلطة، أو تعال في نفس، يقينا بأن الناس سواسية، فيكون بذلك حقيقة خير خلف لخير سلف خلقا وعلما وعطاء. وقد سجل التاريخ على الإنسان أنه متى ما تجاهل قيمة التواصل والتراحم، وتجاهل أن الحياة البشرية تحتاج لبذل التضحيات والوقفات الرشيدة، ولم يعط أهمية للاستئناس بلحظات من الماضي تختزن مكامن الريادة والاستلاب ، إلا ودخل في متاهات الاحتكاك البغيض والأنانية الحاقدة، وحصد النزاعات والفتن والحروب، أفرادا وجماعات وأمما. إن اختلاف العقليات والميول الفطرية أو المكتسبة، لا يعني أن البعض يملك صفات النبوغ والكمال ، والبعض الآخر يدخل في خانة الدونية والوضاعة، بل هو ثراء يتوارثه الناس جميعا ليحصل التكامل والتماسك، وهذا ما لا يفهم في بيئات عدة مع الأسف المرير. إن دور التواصل والتحاور العقلاني الراشد يبعد الشعوب عن أن تجني تخلفا على أرض واقعها، وتشتتا في آراء رموزها، وهزالا في نتائج تحليلاتها، وحيث لا مجال لتحطيم كل الحواجز التي يعتبرها البعض قيدا مسلطا على الحرية الفردية ، أو اعتماد منطق طائفة لا يتحرك من مكانه ولا يتحرر من صغائر محيطه، أو يظل يجتر تبعات ماض سحيق إما أساء فهمه، أو انصاع له في عبودية مطلقة. ثم إذا كان الانفتاح على العوالم المتقدمة شيئا مطلوبا حتما، فإن تقليدها شبرا شبرا، عن حسن نية أو سذاجة، بدعوى الاندماج في التركيبة الجديدة للعالم وركوب قاطرة الحداثة ، وأن الناس بذلك سيكونون سعداء، مرتاحي البال، مطمئني السريرة، ثابتي الخطوات، لن يؤدي يقينا الغرض المطلوب. فالأصل في كل شيء الاختلاف والتنوع. أما الفشل في التأقلم مع معطيات العالم الجديد، فينبع من اختلاط المفاهيم في تقدير الآخر واحترامه، وفي الاستفادة من قدراته وتجاربه لا مجاملته وإرضاءه، وفي الافتقار لأهم عنصر ألا وهو القدرة على اتخاذ القرار والاقتناع والإقناع به، أي قرار، أكان في صالح الجميع أم في صالح جيل بعينه. إن عددا من الدول، ومع عصر الانفتاح والتواصل، ما زالت في حقيقة الأمر تعيش انغلاقا معرفيا لا يتجلى لها مع الأسف الشديد مدى إحكامه عليها، ولا تستشعر بأنه يحصرها ويحاصرها داخل دوائر ضيقة يلفها سياج داكن، يحجب عنها ما تزخر به النفس كمُكون أساسي منتج، ويجعلها لا ترى ما يحيط بها من جمال في الكون، ويمنعها من تسخير كل ما خلق الله للجميع، حتى أصبح نظر الكثيرين قاصرا عن إدراك قيمة الكد والحزم والإخلاص. وما أقسى حكم الكثيرين على عدد من الشعوب عندما تنعت بأسوأ الناس تربية، وأحطها تعاملا، وأجهلها بأمور دنياها، وأشدها تطرفا، وأكثرها دموية، مما يجعلها في وضعية حرجة لا تحسد عليها، ولم تكن لتخطر على البال. وهذا مالا يرضاه أحد.