أعترف أني لمَّا أزل أشُمُّ رائحة الورق ولو انْفَغَمَتْ بأرشيف الأرضة، فيسَّايل لعاب تفكيري حبراً زلالا، رغم ما غدا ينفجر بنقرات أصابعنا من ألغام الأزرار، التي لم تعد تفتح المعاطف فقط في زمننا، إنما جسد العالم؛ ومع أني لا أستطيع فِكاكاً قيد مسمار عن التطور المعدني لمفهوم التقنية، فلا أعجب إلا من الألسن التي تعضَّدت في رتْق بعضها ببعض، حتى اُنْبرمت حبل غسيل طويل، لتعليق مرثية الصحافة الورقية التي كانت ولا تزال، حمَّال الثقافات في العالم، منذ قِماط البردي الجنيني؛ لنجزم إن الصحافة لا تفتأ دَوَّارة في صنف من العود البدئي إلى فجر تاريخها، رغم إلى الوضع الذي ينجلي بالأرقام المسنونة في فرنسا والولايات المتحدة؛ هنا ينبري الباحث «إغناسيو رامونيت» بكتاب جديد تحت ميسم «انفجار الصحافة» (دار غاليلي الفرنسية، 160 صفحة)؛ هذا الكتاب الذي يحذونا إلى انتظار هذا الانفجار الصحافي، ولكن بدون خطر، وتكمن أماراته القيامية؛ في تشرذم القٌراء، صعوبات اقتصادية، ديكتاتورية (كل شيء بالمجان)، غزارة مواقع الصحف الإلكترونية ومنابع المعلومات، اكتثار المدونات الخاصة، وانتشار الشبكات الاجتماعية؛ هكذا يمضي الجميع حَشْراً لاستيقاد فتيل الثورة في الفضاء الإعلامي، فتُرزأ الصحافة الموصوفة بالتقليدية، بالتدمير طُرّاً؛ إن الباحث «إغناسيو رامونيت» الذي اشتغل مديراً سابقاً للصحيفة المعروفة «لومند ديبلوماتيك»، يُسهب حديثاً عن انقلاب العصر الأول لوسائل الإعلام ضِداً على إعلام الوسائل، ليصف بعض ألغام هذا الإنفجار الصحافي، بالقول إنه بين 2003 و2008، انهار الإنتشار العالمي للصحف اليومية مدفوعة الثمن، بنسبة 7,9 بالمائة في أوروبا، ونسبة 10,6 بالمائة في أمريكا الشمالية، بينما اختفت 120 صحيفة بالولايات المتحدة، وبالكاد تشتغل اليوميات في فرنسا مدعومة ب «مساعدات للصحافة» تبقيها في تبعية دائمة للدولة، مما يُضر بصحة رسالتها الإعلامية؛ ولنشهر القرون فوق الرؤوس بالقول دون نطْحٍ؛ إن الصحافة بالأمس، كانت تبيع المعلومة للمواطنين، أما اليوم، فصارت توفرها للجميع بالمجان؛ بل إن عدد نقرات الأنترنيتيين على موضع الإعلانات الإشهارية، هو الذي يحدد مردودية الإعلام، وليس أبداً إمكانية الإشتغال أو المصداقية؛ إن طفرة نجاح المواقع الإعلامية للصحف، يُعوّض كثيراً عن منشوراتها الورقية، من حيث استثارة اهتمام القراء، لكن ليس ثمة غير الخسارات من الوجهة المالية؛ وإذ ندْبر إلى عام 2008، ونستحضر صحيفة «نيويورك تايمز» (تمثيلا لا حصراً)، نجد أن الإقبال على قراءتها في الأنترنيت، أعلى بعشر مرَّات من نسختها الورقية؛ لتؤشر زبدة هذا المخاض اللَّبَني، إلى أن الإشهار كي يحظى بالمردودية على الأنترنيت، يجب أن يكون عدد زُوّار الشاشة، أكثر مائة مرة من قُراء النسخة الورقية؛ ولا ينسى الباحث «إغناسيو رامونيت» في كتابه «الانفجار الصحافي»، أن يحاكم قاسياً الإنحرافات الحاسمة للصحافيين أنفسهم، والقبضة الأوليغاركية التي تسيطر في فرنسا وخارجها، على المجموعات الكبرى للاتصال؛ ولا تسترفعنَّنا الدهشة من الأهداب، حين نسمع من يعُلق التبريرات، شرحاً لهذه الوضعية المأزومة، على مشجب «العولمة الليبيرالية الجديدة»؛ إن الباحث ليجزم، خارج هذه الوصفة الصاروخية العابرة للقارات، أن مبعث هذا الانفجار في العقل الصحافي، هو اندلاع هوس السرعة والفورية الذي يقود وسائل الإعلام، إلى مضاعفة الأخطاء، بل يمحو بورتريهاً دامغاً لحقيقة الصحافيين المسيطرين الذين يعيشون خارج الأرض، دون اتصال حقيقي بالمجتمع؛ وأعود لأعترف في كعب هذا المقال وليس حافره حتى لا نُتَّهم بالرفس الرمزي، إن الورق لن يصير يوماً كفناً لجثة الإعلام، إنما زينتها التي تستورق بربيع القراءة في المقاهي والقطارات والمطارات وغرف النوم؛ ثمة حميمية رومانطيقية لا يمكن استشعار لذتها إلا بلمس جسد هذا الورق، وليس همساً استمنائياً عبر الأنترنيت؛ حقاً وعشقاً أحبّها ورقاً....!