قالت: تسمرت في مكاني والصوت الخشن يأمرني بالتوقف عن السير، فيما اليد تضع على رقبتي خنجرا. هذا هو المسطر في اللوح المحفوظ إذن:أن أموت ذبحا من الوريد إلى الوريد،في ليلة من ليالي أواخر شهر أكتوبر . قدر أن أدفع ثمن عدم احترام قطارات البلاد للوقت والعباد،و ضيق الزقاق الذي لا يلجه الطاكسي ،وتعطش الرجل الذي يهددني للدم مدفوعا بخلل لا يعلمه إلا الله. فجأة استحالت دنياي و أحلامي و مشاريعي ، إلى رأس خنجر يكاد ينغرس في عنقي . لا مجال للهرب ،والقوةالجسديةغير متكافئة... أما القوة النفسية التي آمنا دائما، يا فيلسوفة الزمان ، بأنها معادلة لقوة الآخر الجسمانية وتجل للحكمة الإلهية في تكامل الجنسين ، فقد شلها هول الصدمة ... شلل... شلل تام ... - ما بْقيتوشْ تْخافوا ، بْرافو ... خاطبني مستهزئا... تْخَرْجوا فْالْليالي، وتْرَجْعوا فْالْليالي ... بْصَّحْ عَنْدْكومْ الحق دِّيرو ما بْغيتو، حيتْ ما بْقاْوش الرجال فالبلاد. بحركة لاإرادية نظرت إلى الساعة : الشلل طال البصر أيضا. - «متطرف يظن أن الله خلق الكون، ليصول فيه الرجال وحدهم ويجولون «. فكرت. -أو جريح آذته امرأة ،فحمل ذنبها كل النساء. -طَلْعي اْلفْلوسْ اللّي فْالصَّاكْ أمرني بغلظة، فجأة. أحسست براحة غريبة لكونه لصا... وأنا أمتثل لأمره ،سألني: - قولي نْشوفْ آشْ كَتْعَمْلي ْبّرا فْهادْ الليل؟ سألني ووقف قبالتي ، كان وجهه مكشوفا وليس كما في الأفلام ، وجه منهك غاضب لم أتبين ملامحه جيدا بسبب ضعف النور، غير أنه هيئ لي أنني شاهدت ندبة غائرة على خده الأيمن. - يا الله سَرْبينا .. . أَرايْ ما عندك . وكأن سؤاله صفعة ، حررتتني نسبيا من الشلل ... -ألم يسبق لك أن جربت أحد قطارات المساء ، القادمة من البيضاء؟ سألته مترددة. لم يستطع إخفاء دهشته من السؤال: - نعم أَلاَلاَّ ؟ كررت السؤال إذ لم أجد بدا من تكراره ،وأنا ألعن غبائي الذي ألهمني به . لم يجب. كان يضع النقود في جيبه، وهو يشير برأس الخنجر إلى سلسلة اليد والساعة. تابعت، وأنا أمنحهما له : - سألتني ماذا أفعل خارج البيت في هذا الوقت ،وها أنذي أجيبك : تأخر بي القطار. استطردت مشجعة نفسي ،في غير يقين ، أمام صمته : - هذا سبب، وهو خارج عن إرادتي ، إلا أن هناك أسبابا كثيرة بإمكانها أن تجعل امرأة مثلي تتأخر أحيانا إلى أبعد من هذه الساعة وكلها أسباب وجيهة لا حق لأحد في محاسبتها عليها. -يبدو أنك بدأت تستردين شخصيتك الحقيقية .. - فلت مني الاحتجاج ... حاولت أن أردع نفسي بعدها ، لكن السؤال كان قد انطلق رغما عني مثل مارد لا قدرة لي على كبحه : - وانْتَ قُل لي عافاكْ ،عْلاشْ هاْز خنجر أُكَتْهَدَّدْ بْناتْ الناس عوض ما.... ؟ - والله العظيم...! قاطعني ، وهو يحرك رأسه ضاحكا ضحكة مخيفة. هل تعرفين مع من تتكلمين ؟ سألني، وهو يحدق في مهددا. - كلا. أجبته، و دقات قلبي تتزايد. - خاصَّكْ تخافي آبَنْتي ... - أنا خائفة بالفعل ، وإني لألعن الساعة التي ركبت فيها قطار النحس ذاك ، ولا أظنني سأركب قطارا بعد اليوم، كما أنني سأشطب الأزقة الضيقة غير الآمنة من قائمتي إلى الأبد. صمت برهة ظننتها دهرا ، وسألني : - قلت قبل قليل إن لديك من الأسباب ما قد يضطرك أحيانا إلى التأخر خارج البيت ، عْلاشْ آشْ كَتْخَدْمي لينا بْالسَّلامَة ؟ -أنا ... -نعم ؟ سأل متفاجئا. - أنا ... تأملني من رأسي إلى أخمص قدمي، ليقارن ولا شك بين هيأتي والصورةالتقليدية المترسخة بسب الأفلام البليدةالتي كثيرا ما سخرنا منها : شعر معقوف، ونظارات طبية مقعرة، وهالات سوداء تحت العينين،وتنورة خارج إيقاع الزمن ،و... - ولكن ...؟ - أحمل بطاقة العمل إن كنت لا تصدق . - هنا، في فاس ؟ - كلا . في البيضاء . - منذ متى ؟ - منذ سنتين . توقف عن اللعب بنصل الخنجر ، وخاطبني بعد صمت وقد تغيرت نبرته : - هيا أرافقك ؟ - إلى أين؟ سألته متوجسة. - أنت تتجهين إلى بيت ،أليس كذلك ؟ - آه !...طبعا ...طبعا ،ولكن البيت قريب ... إنه على بعد خطوات . أجبته، وأنا لا أكاد أصدق ما أسمعه . - سأرافقك ،الوقت خايْبَة وأولاد الحرام كَثْروا... لو تدرين أي جهد بذلت لأتحكم في ضحكة هستيرية ،كانت ولا شك ستفسد كل شيء. نجحت أخيرا في أن أقول له بصوت مكتوم : - َواخَّ ، شكرا . رافقني وأنا لا أشعر بذرة من الأمان ، كان يتكلم طوال الطريق فيما كنت منشغلة بإحصاء الخطوات التي تفصلني عن البيت، وبالتفكير في كل الطرق الممكنة لحماية النفس في وضعي ذاك ...أنتبه إلى ما يقوله بين الحين والآخر فتصلني نتف عبارات عن المدرسة ... والتشرد....والسرقة ...وعذاب السجن ...فالتمرد... والتردي في الهاوية ...وكذب بعض الصحف .... - أنا كَنْتْلاْوحْ ُّبوحْدي فالدنيا آختي ، سمعته يقول .... ما عندي علاقة لا بْهادو ولا بْدوكْ كنت أحصي الخطوات ،وأنا حريصة على إبقاء مسافة بيني وبينه، فلم أهتم بعلاقته بالصحف. وصلناأخيرا،وقبل أن أضع يدي على جرس الباب ربت بيده على كتفي ونظر إلي بحنان بالغ أذهلني ، ثم أخرج السلسلة والساعة من جيبه ومدهما لي : - تفضلي ،أما النقود فلا أظنك تمانعين إن احتفظت بها ... أنا في حاجة إليها. أضاف ، قبل أن يختفي : - تْهَلاّيْ فْراسْكْ آختي، أوما تَنْسايْش تَدْعي مْعايا . أخبروني في البيت أن صاحبنا، هو نفسه المجرم الذي دوخ الشرطة، والذي تصفه بعض الصحف بالإرهابي ... فسقطت مريضة الرعب لا أصدق أنني نجوت بفضل مهنتنا. زمن الأعاجيب ! مجرم متمرد يحترم مؤسسة ، لم تعد تحترم نفسها... ؟ !تصوري كم يلزمنا من العمر، لكي نفهم النفس البشرية ؟ علمت بعد زمن بوفاته ...، فوجدت نفسي أبكي ... - تبكين ؟ -.... - لم ؟ - لا أعرف ...