فقدت السينما المغربية يوم الأحد الماضي مبدعا متعدد المواهب هو الشاعر و الأديب المخرج والسيناريست المغربي "أحمد البوعناني" الذي رحل إلى دار البقاء و يعتبر من بين المؤسسين للسينما المغربية و من أبرز مبدعيها لكونه ساهم ككاتب للسيناريو أو موضب أو مخرج في العديد من الأعمال السينمائية الناجحة، التي نلمس فيها بصمته من بينها فيلم "وشمة" لحميد بناني على سبيل المثال. و إذا كان هذا الفيلم يعتبر من طرف النقاد هو البداية الحقيقية للسينما المغربية، فإن فيلم "السراب" الذي أخرجه الفقيد أحمد البوعناني يشكل محطة بارزة و مضيئة في تاريخ السينما المغربية، و تحفة فنية ممتعة، وأحسن ما يمكن أن يقام به بعد رحيله و بعد الترحم عليه بالنسبة للذين لا يعرفون قيمته و قدراته الفنية، هو الاستمتاع بمشاهدة فيلمه الرائع "السراب" الذي أصبح منذ يوم الأحد الماضي يتيما، و هو من إنتاج المركز السينمائي (سنة 1979) الذي أنجز أيضا العديد من نسخ الديفيدي لهذا الفيلم، و تم توزيعها إلى جانب أفلام أخرى في مناسبات مختلفة على السينمائيين و المهتمين بالميدان السينمائي. الفقيد أحمد البوعناني هو الذي كتب السيناريو و الحوار و قام بتوضيبه وإخراجه، و تعامل فيه مع عبد الله بايحيا كمدير للتصوير و اختار له نخبة من أجود الممثلين ، من بينهم محمد الحبشي (محمد بن محمد)، الراحل محمد سعيد عفيفي (علي بن علي)، مصطفى منير (سي رحال) فاطمة الركراكي (الهاشمية) عبد الله العمراني، محمد الرزين،و زوجته أمينة السعودي التي أنجزت أيضا الديكور و الملابس و الماكياج، و شارك فيه كذلك الفنان محمد السلاوي في دور أبيه المرحوم الحسين السلاوي. الفيلم منجز بالأبيض و الأسود و غني بالمكونات الفنية والجمالية و التناغم بين الكلام و الصورة، صوره عبارة عن لوحات فنية ممتعة بمضمونها و زوايا التقاطها و كيفية تأطيرها، كلامه شاعري شعبي غني بالمعاني والإيحاءات و السخرية من الواقع و من المستعمر الفرنسي، مثل "الدنيا معطية للنصارى"، "خلقنا فالزلط نموتو فالزلط"، "لي مرض غير يموت"، "سعدات لي مات و ما شاف والو"، "حتى الحلم يمنعوه شي نهار". التشخيص مقنع و رائع بالنسبة لكل الممثلين و الممثلات مع تميز ملموس للفنان محمد الحبشي، كما أن الموسيقى التصويرية و الأغاني الشعبية القديمة الجميلة الموظفة فيه ملائمة للأجواء و للفترات الزمنية التي تدور فبها الأحداث ، مثل ما هو الشأن للملابس و الأكسسوارات. تدور الأحداث في عهد الاستعمار حول شخصية "محمد بن محمد" البدوي الفقير و المقهور المنحدر من منطقة الرحامنة و المتزوج من الهاشمية (فاطمة الركراكي) التي تشتغل كخادمة عند أسرة فرنسية، والذي عثر صدفة في يوم من الأيام على مبلغ مالي كبير داخل كيس من الدقيق الأمر الذي جعله ينطلق بين الوهم و الأمل في التخلص من واقعه الاجتماعي المزري، من خلال سفره إلى المدينة (الرباط ? سلا) بهدف تصريف المال الذي عثر عليه و البحث عن ابنه المفقود. الفيلم يجمع بين مختلف الفضاءات الجميلة الداخلية و الخارجية، ويجمع بين كل الأعمار (أطفال، شباب، كهول و شيوخ، رجالا و نساء....)، و كذا بين عدة أقوال و طقوس و ظواهر اجتماعية ( الحضرة، الشعوذة، السويرتي، البوهالي....)، هو من نوع الدراما الاجتماعية و الكوميديا السوداء، و هو عبارة أيضا عن وثيقة سينمائية شاهدة على فترة مهمة من تاريخ المغرب في عهد الاستعمار الفرنسي، و شاهدة على واقع الإنسان المغربي آنذاك بمختلف أنواع لباسه و نمط عيشه المزري و مقاومته للاستعمار. سبق لهذا الفيلم أن نال العديد من الجوائز، كما تم تكريم الفقيد أحمد البوعناني في مهرجانات و ملتقيات مختلفة من بينها مهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف في دورته الثالثة عشرة ( 2009) ، ملتقى زرهون الوطني الثالث لسينما القرية (2007 )، و كان من المبرمج أن يحضر رحمه الله ما بين 16 و 20 مارس القادم في الدورة السادسة للمهرجان السينمائي الجامعي بالرشيدية المخصصة لتجربته السينمائية، و التي يتضمن برنامجها عروضا لنماذج من أفلامه القصيرة و فيلمه الطويل " السراب "، إضافة إلى ندوة فكرية يقارب من خلالها نقاد وباحثون سينمائيون جوانب متنوعة من تجربته الإبداعية. شاءت الأقدار أن يتزامن رحيله برحيل الفنان عائد موهوب الذي فارق الحياة رحمه الله يو م الثلاثاء الماضي، و هو فنان متميز و مقتدر ساهم منذ ريعان شبابه (منذ الخمسينيات) بكفاءة و إتقان في العديد من المسرحيات الناجحة، و في أعمال تلفزيونية و سينمائية مختلفة، كما كان له الفضل الكبير في تكوين أجيال مختلفة من الفنانين. وشاءت الأقدار أن لا تكون وفاة هذين المبدعين في نفس الوقت و المكان، و لكنها شاءت أن يدفنا في نفس الوقت و المكان.