لا تذكر إن كان الوقت نهارا أو ليلا ، إن كانت نائمة أو مستيقظة ...كانت تعيش حالة خاصة ، من تلك الحالات التي تزور الإنسان على غفلة حينما يكون في قمة الألم أو قمة الفرح . كانت في غاية الارتياح ، تطير .. لم تكن تسمع رفيف أجنحتها إلا أنها كانت تحس بأنها تطير... من فوق تقزم العالم وبدا بلا أهمية ، وحده الفضاء كان يمارس سلطة عليها .ظلت تطير مدة من الزمن في الفضاء الشاسع الخالي ، وفجأة ظهر لها كائن نوراني أعماها الشعاع المنبعث منه ... أغلقت عينيها ثم فتحتهما بسرعة لتتأكد من الرؤية ... وهي تغلق عينيها من جديد، نفذ الكلام إلى أذنيها بلا صوت : - لك أمنية واحدة، قبل أن أختفي . !يا للأ منيات في لمح البصر طغت سلطة الأرض على سلطة الفضاء، وانهالت الأمنيات : شخصية وطنية وعربية وإنسانية .... لم تستطع إيثار واحدة منها فانطلقت تسردها بسرعة و بلا ترتيب، وهي لا تكاد تصدق بأن الحياة تمنحها مثل هذه الفرصة . أنصت إليها الكائن النوراني في انتباه بالغ، ظنت معه أنه سيتخلى عن شرط الأمنية الواحدة ، وأنه سيلمس عالمها وعوالم الآخرين بعصا سحرية فيسود الحب والعدل ... و تختفي الآلام والمجاعات والظلم والاستبداد... و... لكن ما أن توقفت قليلا لتأخذ نفسا قبل أن تستمر ، حتى نفذ إلى سمعها كلامه : - المطلوب منك أمنية صغيرة ضائعة ، من نوع الأمنيات التي يتم نسيانها في غمرة الأحلام الكبيرة... و الأكاذيب الكبيرة ....تلك التي تنغرس عميقا في الوجدان ولا تنكشف إلا في لحظة تجل. - أمنية صغيرة ؟ رددت في خيبة أمل . - أجل، أمنية صغيرة أستطيع تحقيقها لك... أنا كائن يعي حدود استطاعته، وأنت من قوم يؤمنون بالمعجزات يأتي بها غير الأنبياء، و يحلمون بالنصر وهم يصنعون أسباب الهزيمة ...لا قدرة لي على إحياء الموتى ... لست عيسى... ولا أنا صلاح الدين ،أما نمور اليوم العاشر المتناسلين فلن يحررهم من أقفاصهم ويعيد إليهم حرية الغابات الشاسعة، سوى استماتتهم في مقاومة أساليب المروض . نفذ خطابه إلى أعماقها ،فغادرت الفضاء عابرة الزمن إلى الوراء لتنزل إلى الأرض في هيأة طفلة ... تنتظر... تنتظر وهي لا تكاد تهدأ في مكان واحد من تأثير قلق خفي ، تأمرها أمها بالهدوء. - لم تأخر ؟ تتساءل - لا تقلقي ... لحظات وسترينه يلج الدار وفي يده هديتك تتراءى لها عينا عمها الضاحكتين وهي تجري فرحة لمعانقته ... يسلمها قطعة الحلوى، التي لا تحصل عليها من سواه في عطلة نهاية الأسبوع ، وهو يعتذر : - لم أجد البائع بسهولة.... المدينة تكبر والطلب عليه يتزايد... حلوى ديمقراطية ، تساوى في حبها والقدرة على شرائها أطفال المدينة من مختلف الفئات الاجتماعية ، يحتكر صنعها وبيعها رجل واحد ... تنتظر... - لم تأخر ؟ تتساءل من جديد قلقة - لقد تأخر بالفعل ، توافقها والدتها ، لكن حجة الغائب معه... ربما لم يعثر على بائع الحلوى وهو الآن يبحث عنه في أزقة المدينة طمأنتها الفكرة وغمرتها ذكرى الحلوى بالسكينة، فتمنت أن يتجاهل عمها تحذيرات والدها بخصوص أضرار الحلوى وأن يجلب لها قطعة كبيرة جدا منها. انتظرته ... طويلا... طويلا ... إلا أن حجته من النوع الذي يغيب إلى الأبد ... حينما صحت من غيبوبة غيابه ،كان البائع قد رحل بشكل مفاجئ من المدينة ، وبرحيله انتهت لحظات السعادة الجماعية المتساوية بين تلامذة وأطفال المدينة. -أمنية صغيرة معلقة ... أمنية واحدة تقول ؟ سألت الكائن النوراني - أجل، أمنية واحدة تكون في المتناول. - وستحققها لي فورا؟ سألت في فرح طفولي - أجل، سأحققها بإذن الله قالت، و ذكرى مذاق الحلوى اللذيذ يغمرها بحنين جارف : " - أريد قطعة كبيرة ...كبيرة جدا من "جابانْ كُلْ أوبانْ - نعم ؟ - أريد حلوى " جابانْ " -....... - جابانْ كُلْ أوبانْ مدت يدها لتأخذ قطعة الحلوى، فارتدت إليها فارغة وقد استعادت هيأتها العادية تحت وطأة سلطة الأرض .من ساعتها و الكائن النوراني بغيتها ... تبحث عنه في زوايا صحوها ومنامها ...وإلى اليوم لم تعثر له على أثر ...