تزيد وضعية المشهد السياسي المغربي تفاقما يوما بعد آخر مع اقتراب موعد الاستحقاق الانتخابي 2012 المقبل، حيث اختلطت الأوراق على الفاعلين السياسيين بشأن محددات خارطة الطريق التي من شأنها إرشاد مختلف الأحزاب في مسيرتها المضنية في مشهد سياسي مركب ومعقد ومكلف ومعاند وزئبقي. لقد احتار الفاعلون السياسيون في تدبير المرحلة السياسية الحرجة وانقسموا إلى ثلاث فئات، فئة تواصل نضالها من أجل دمقرطة الحياة السياسية والإسهام في استنهاض مؤشرات التنمية، وهو ما يتجلى في منهجية بعض الأحزاب الحكومية كحزب الاستقلال، المتحمل لمسئولية تدبير المرحلة التزاما منه بالتصريح الحكومي وبالاتفاق الأولي مع جلالة الملك راعي المسيرة التنموية بالبلاد، وفي ضفة مقابلة ثمة فئة أحزاب المعارضة، التي تحصر نهجها في معارضة مختلف الأوراش التنموية المنجزة، ملكية كانت أو حكومية، متهجمة في السر والعلن على الفئة الأولى، بشعبوية مفضوحة وحركات سياسوية عفا عنها الزمن، همها تصيد هفوات الفئة الأولى والتشهير بها ، هدما لكل ما تراكمه من نقط إيجابية أمام الرأي العام الوطني، ظنا منها أنها تستقطب الأصوات في إطار حركاتها الانتخابية الإحمائية، ويصنف المتتبعون حزب الوافد الجديد وأتباعه ضمن هذه الفئة، وتبقى فئة ثالثة من الفاعلين السياسيين على كرسي الفرجة، متتبعة باهتمام للصراع الضاري والمتأجج فيما بين الفريقين السياسيين السابقين، متنتظرة معرفة من يكسب المعركة قصد التصفيق له والانضمام إلى صفوفه مجاملة ونفاقا، وبكل أسف عوض أن تتخندق في هذا الاتجاه المعارض تيارات سياسية من المعارضة، نجد أحزابا سياسية من الائتلاف الحكومي تدعم هذا الاتجاه السياسي المعارض، مما يبرز قمة النذالة السياسية لهذه الفئة الخاسئة وخبثها ونفاقها السياسي، وهو ما يتعين معه فضح سلوكات هذه الأخيرة أمام الرأي العام الوطني، في الوقت المناسب، علما أن إذا كان مستساغا قبول هذه الشطحات من الأحزاب المسماة سابقا ب»الإدارية» فإن من غير المقبول استساغة صدوره من حزب وطني يشهد له التاريخ بسجل ناصع في النضال من أجل البناء الديموقراطي. إن ضبابية المشهد السياسي حتى وإن كانت الإدارة هي صانعة سيناريوهاته بشكل أساسي، بدعمها المفضوح لحزب الدولة الجديد، كما يلمسه جميع المغاربة اليوم ، فإن اللوم يوجه أيضا إلى العديد من الأحزاب السياسية المغربية، التي نظرا لهشاشة تنظيماتها الأفقية والعمودية وافتقارها للإمكانيات الضخمة المؤهلة لها من أجل بلوغ مراميها وتحقيق أهدافها ، أصبحت هذه الأحزاب في غالبيتها تنعت بالانتهازية والنفعية والسعي وراء المواقع الحكومية، حتى ولو كان ذلك على حساب مبادئها وقيمها الحزبية ونضالها التاريخي، وذلك باللهث وراء الأعيان واستقطاب التكنوقراط وما شابه ذلك وتأخير مناضليها وأطرها في قاعة الانتظار إلى أجل غير معلوم. إن المشهد السياسي المغربي حتى وإن كان يعج بقرابة أربعين حزبا سياسيا فإن نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة لسنة 2007 برهنت على أن سبعة منها فقط هي التي حصلت على عتبة 6 بالمائة المطلوبة، وهي تقريبا نفسها التي حصلت على 90 بالمائة من الأصوات في استحقاقات 2009 الجماعية إضافة إلى الوافد الجديد الذي بوأته الإدارة المرتبة الأولى، مما يبرز بوضوح أن حوالي ثلاثين حزبا لا محل لها من الإعراب السياسي، إذ لو لم يكن المغرب ينظم انتخاباته بنمط الاقتراع اللائحي النسبي لما كان لهذه الأخيرة وجود في الخريطة السياسية وفي البرلمان، مما يستفاد منه أن الاقتراع اللائحي حقق فعلا النتيجة المرجوة منه، والمتجلية في تشتيت مكونات المشهد السياسي عوض تكثيفها وتجميعها في أحزاب قوية. إذا كانت مؤشرات التنمية الاقتصادية والاجتماعية قد تحسنت بشكل ملحوظ في العشرية الأخيرة فإن قيم ومبادئ اللعبة الديموقراطية بالمغرب عرفت خلافا لذلك تقهقرا كبيرا في بعدما تم صنع الوافد الجديد والدفع به إلى الساحة السياسية الوطنية،ظنا منه استقطاب المغاربة غير المتحزبين، مما أبعد معه هؤلاء عن السياسة والسياسيين، وعمل على تمييع الحياة السياسية بابتداع قيم سياسية ومبادئ فاسدة جديدة، من قبيل النفعية والانتهازية والوصولية والإثراء بلا سبب وشراء الذمم والضمائر وتبخيس المكاسب والانتفاض ضد الوطنية والتنكر للتاريخ والأصالة. إن الاستحقاقات الانتخابية المقبلة مفتوحة على احتمالات سياسية سيئة، حيث يبدو في الأفق تكرار سيناريو الانتخابات التشريعية لسنة 1963 ، وسبق لحزب الاستقلال أن تعايش مع وضعية دقيقة مشابهة حينما صنعت الدولة حزب «الفديك» وكان يروج زعيمه «اكديرة» آنذاك مقولة أنه «حزب الملك» لاستقطاب الأصوات، مستحضرين بهذا الصدد قوة خطاب الزعيم علال الفاسي في التقرير الأدبي للمؤتمر الثامن للحزب سنة 1965 ، معلنا بأن زعيم هذا الحزب:» ادعى أنه يعمل باسم الملك وبرعايته، وسخر وزير الداخلية وزعيم هذا الحزب الجديد الإدارة المغربية بعمالاتها وقوادها وشيوخها لتنظيم الحملات الدعائية، وتقدم الأمراء والوزراء، ولم يُترك سبب من أسباب الدولة إلا استعمل لإقناع الشعب وإرغامه على إعطاء أصواته للذين لا يعرفهم و لا يثق بهم، ووجد الخونة وقدماء المتعاونين وسيلة للنيل من ذوي السوابق الحسنة والقادة المخلصين»، وكان الجزاء هو تهجم النظام الأوفقيري على منتخبي ومناضلي الحزب باعتقال خمسة آلاف مناضل أصدر الحزب أسماءهم في رزنامة القمع أي الكتاب الأبيض. إن الحكمة من الدرس التونسي تفرض اليوم ضرورة مراجعة الدولة لسياستها الداعمة لبعض الفاعلين السياسيين الذين لا جذور لهم في المجتمع، حيث مع وضعية اقتصادية عالمية مأزومة بدأت الشعوب في الانتفاضة ضد الغلاء وتدهور قوتها الشرائية، وكلما انتفضت هذه الطبقات المتضررة فلن يوقفها سوى مؤطروها من الأحزاب السياسية الوطنية الشعبية المرتبطة بها والممثلة لهمومها ولمآسيها، حيث انتهى عهد الرصاص وعهد الأحزاب المصطنعة ، والمغرب يحتفظ بأسوإ الذكريات بهذا الشأن ، حينما آل أمر اصطناع الفديك إلى حالة الاستثناء سنة 1965، ولنا مؤخرا مثالا حيا على ذلك حينما تم طرد مسئولي الوافد الجديد في أكثر من اضطراب اجتماعي جنوب وشمال المغرب، كما حصل في أحداث العيون الأخيرة وفي تظاهرة «بوكيدان» بإقليم الحسيمة، رغم كون هذا الإقليم معقل بعض قادة هذا الحزب، مما يبرز غرابة هذا الكائن عن مجتمعنا المغربي المحافظ ، ويتعين معه دق ناقوس الخطر في أن الاستحقاق المقبل على الدولة أن ترفع يدها عن المنافسة الانتخابية المقبلة حتى يتعرف المغاربة على خريطة المشهد السياسي الحقيقية .