توصّل الموقع الإلكتروني للهيئة المركزية للوقاية من الرشوة ، ب340 شكاية، بينما بلغ عدد الشكايات التي تم تقديمها بطريقة عادية، 60 شكاية فقط سنة 2009، و80 سنة 2010، حسب ما أعلنه رئيس الهيئة المذكورة. أرقام قليلة وخادعة، وتثيرأسئلة من قيبل : هل هذا العدد القليل جدا من المواطنين هم الذين يعنيهم أمر الرشوة؟ هل هم وحدهم ، وسط الملايين من المواطنين، الذين وجدوا أنفسهم مضطرين لدفع رشوة في مقابل الحصول على حق من حقوقهم الشرعية والقانونية والطبيعية..؟ القراءة الثانية التي يمكن أن توحي بها هذه الأرقام ،احتمال انحصارالرشوة في إطار ضيق وهو ما نتمناه لكنها أرقام خادعة ؛ تعطي صورة جد ناقصة وغير حقيقية عن حجم الرشوة التي لم تعد فقط ظاهرة، بل أصبحت عادة سيئة لا غنى للمواطن عنها ولا غنى لها عن المواطن، لدرجة أن هذه العلاقة الجدلية بين الطرفين تتميز بالتواطؤ. وهذا التواطؤ المثير هو الذي يجب الانكباب عليه ومعرفة جوانب محاربته، وقبل ذلك ينبغي التوفّق في فكّ طلاسيمه. وهو ما يتطلب خبراء من نوع خاص، وليس موظفين إداريين. لا حاجة إلى القول أن هذه العادة السيئة التي ابْتُلِيَ بها مجتمعنا، أصبحت متجذِّرة فيه بشكل قوي ، وتحتاج إلى مُجاهَدَة ومجابهة طويلة الأمد ، وإلى مواجهة شديدة الصرامة. ذلك أن مرضا من هذا النوع الخطير المُسْتَشْري في جسم المجتمع ، يتطلب قرارا حازما وإرادة صلبة لاستئصال المرض الخبيث بعد أن تأكد أن الدواء قليل النجاعة إنْ لم أقل غير مفيد، وإلاّ فكل تأخير في محاربته يعني تأخير القضاء عليه لسنوات وعقود قادمة. وهذا، بالطبع، لا يُرْضي أحدا. المثير في الأمرأن الكل يتحدث عن الرشوة وضرورة مواجهتها، وتطهيرالمجتمع من دنسها، وفي نفس الوقت تجد الكثير الكثير من مواطنينا شركاء فاعلين في دعمها وترسيخها والترويج لها. وأعني هنا بالذات الراشي والمرتشي. فالراشي يخضع لتقديم رشوة للحصول على ما يريد، والمرتشي يستغل الوضع لممارسة المزيد من الابتزاز. وتكبر المصيبة حين ترى الراشي يبحث عن المرتشي في كل مكان من أجل إرضاءه ولو على حساب القانون والأخلاق والوازع الديني ، وكذا على حساب تنمية البلد وتقدمه وتطوره. لا يقف الأمر عند هذا الحد، بل أصبحت الرشوة ثقافة تضبط علاقات وتتحكم في ممارسات أصبحت ، بحكم الواقع، علاقة وممارسة عادية جدا، وأصبحنا الآن أمام مشكل عويص فعلا. فعوض أن نَهبّ لمحاربتها بجميع الوسائل الممكنة ، نجد أنفسنا أمام عملية جهنمية للتطبيع معها.. ولن نفشي سرّاً إذا قلنا أن الرشوة مُعَشَّشة في كل مكان، وبين جميع الفئات والطبقات وفي سائرالمجالات، ممّا يدفع إلى القول أن أمر محاربتها سيتطلب وقتا أطول وجهدا أكبر كان من الأجدر أن نصرفهما في قضايا أخرى لو تم القضاء عليها مبكِّرا. إن العلاقة مع الرشوة بلغت درجة الحميمية مع المواطن، وأصبحت في غاية التعقيد، ولا تكفي القرارات الإدارية أو الإجراءات الرادعة في معالجتها، لأنها ، بكل بساطة، تدخل في خانة العلاقات الإنسانية والاجتماعية والمصلحية والنفعية تقوم على التواطؤ السّرّي والعلني. وهنا بالضبط تكمن صعوبة المعالجة. مع ذلك ، لا بدّ أن ندور حول«التدويرة» ومٌراوَدتها بطرق فنية لاستدراجها إلى الكمين الذي تجد فيه نهايتها. [email protected]