يخطئ من يعتقد أن وصول بلد معين إلى مستوى عال من الازدهار الاقتصادي ، هو بمثابة استمرار دائم متواصل لذلك الازدهار. فالحياة الاقتصادية وفي مستوى البلدان عرضة للانتكاس، إن لم تكن هناك يقظة متواصلة، لاستمرار الجهد، والفطنة غلى كل مظاهر الحياة. ويسوق الاقتصاديون مثلا لذلك الأرجنتين التي كانت في الأربعينيات جنة وارفة، مزدهرة وقد بلغت مستويات من الثراء عالية كدولة من جهة وكأفراد بمستوى للدخل الفردي كان يرتبها بين الأربعة أو الخمسة الكبار في العالم. ثم وبفعل الانقلابات والسياسات غير الرشيدة انهار البلد وساد الفقر وتدهور الاقتصاد، وتراجعت نسب النمو وباتت سلبية، و"انتعشت " البطالة . ثم وفي ظل سياسات أملاها الواقع أخذت الأرجنتين تستعيد عافيتها، وتسترجع ازدهارها، ولكن ما زالت أبعد من أن تعود للوضع المنتعش الذي كانت عليه بعيد الحرب العالمية الثانية. ولذلك فقد حق القول إنه ليس هناك ازدهار دائم لبلد معين، دون جهد متواصل ودون تنمية مستديمة، لا تعرف ارتخاء ولا توقفا. وإذ نشهد اليوم بلدانا كانت في القمة لا يظن أن تنتكس اقتصادياتها يوما، مثل اليونان أو إيرلندا وحتى إسبانيا والبرتغال وربما غدا فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وغيرها، فذلك لأن تلك البلدان استسهلت ركوب السهل، فانخرمت موازينها كلها، عجز فادح في ميزانياتها، استدانة منفلتة، إنفاق حكومي فوق طاقة الاحتمال، استهلاك عمومي وخاص لا علاقة له بالإمكانيات الفعلية، وبالتالي غياب الحكمة في تسيير البلدان وسوسها، من ذلك الإقدام على تقليل ساعات العمل، أو تأجيل القيام بالإصلاحات المستوجبة ، نتيجة ضغط رأي عام عصي على الإصلاح رافض في الحقيقة لتوفير القدرة والطاقة على الحفاظ على مكاسبه. بالتالي فإن أي وضعية مريحة لا بد من الإدراك بأنها ليست دائمة ولا مؤبدة، وأن الحفاظ على المكاسب هو كفاح مستمر يومي سنوي، وإلا تدحرج البلد من وضع إلى وضع، وهو أمر غير مستبعد ولا مستحيل. إن المهمة الأصعب لحكومة أي حكومة اليوم إلى جانب الحوكمة والسياسات الرشيدة التي ينبغي لها أن تختطها وتنفذها، هي معرفة بيداغوجية بكيفيات توعية جماهير شعبها، بحقيقة التحديات التي تواجهها في عالم أكثر فأكثر صعوبة ، والخيارات الصعبة التي عليها أن تختارها ، والأدوية المرة أحيانا التي عليها أن تبتلعها ويبتلعها معها شعبها. ليس من الناس على المستوى الفردي من لا يحب أطفاله ولكن تأتي أحيانا فترات يضطر فيها وفي القلب ألم أن يقدم الدواء المر أو المؤلم للشفاء. ولعل أكبر القدرات اليوم للحكومات، هي أن تكون على أمر من نفسها لإقناع شعوبها بما يتوجب اتخاذه من قرارات للحفاظ على مستوياتها المعيشية أو رفعها وتحقيق الازدهار لها. *كاتب صحفي رئيس التحرير السابق لصحيفة الصباح التونسية [email protected]