في يوم الجمعة 21 مايو 2010 كنت ممن تشرفوا بالدعوة لحضور الندوة الفكرية والسياسية الهامة التي نظمها حزب الاستقلال ومؤسسة علال الفاسي بمدينة سلا في إطار الاحتفالات على مرور قرن من الزمن على ميلاد المفكر والزعيم علال الفاسي. ولمكانته المتميزة فقد حضرت الندوة وجوه من الحركة الوطنية في مقدمتهم السادة: امحمد بوستة،عبد الكريم غلاب،أبو بكر القادري إضافة إلى أبناء الزعيم ووجوه من اللجنة التنفيذية، وزراء سابقون وحضور مهم وقد نشط الندوة وبامتياز الأساتذة عبدالرحيم المصلوحي، عبدالحي المودن، محمد الطوزي، محمد العري المساري وعبدالعالي حامي الدين ودارت حول ثلاث محاور رئيسية: -النظرية السياسية عند الزعيم علال الفاسي. -مواقف علال الفاسي من التجارب الدستورية والنيابية في المغرب (1956-1974). -العمل السياسي عند الزعيم علال الفاسي. ومع أن العروض كانت جد قيمة إلا أنني كنت أقول مع نفسي إننا نختزل فكر علال الفاسي ونغبن أفكاره أمام غزارة تآليفه، وفي حديث على هامش الندوة مع ابن الزعيم الدكتور عبد الواحد الفاسي بحضور صديقي الدكتور حمدون الحسني قلت له “إننا لحد الآن لم نعط الراحل كل ما يستحق من عناية على ما نظر له على الأقل فكريا ومن خلال مؤلفه السابق لعصره وبكثير وأقصد طبعا كتاب النقد الذاتي والذي وإن قرأناه فإننا نقرأه قراءة انتقائية، حينها حضرت ببالي فكرة إعادة قراءة الكتاب لمزيد من الشرح وإعطاء تصورات بمفاهيم وقراءة جديدة إن أمكن لأطروحات هذا الزعيم لماذا لا يتجرأ على قراءة الكتاب بشكل آخر؟لماذا لا نلبي رغبة الفقيد وقد طلب منا قراءته والإضافة إليه بل حتى نقده إذ أمكن في نقد للنقد؟ لماذا لا نحاول قراءة الكتاب على ضوء الحاضر؟لماذا لا نقرأ ما بين سطور هذا الكتاب؟ فكتابات علال الفاسي تقرأ في ظاهرها وما بين سطورها والتي هي في الواقع شروح وتعميق لظاهر نصها الفكري. في قراءتي هذه للكتاب سنقرأه على أساس برنامج سياسي للحزب نظر له علال الفاسي لذا سأتكلم فيه عبر مراحل فهرسته بشكل مخالف للكتاب. ان علال الفاسي يرفض العصبية والانقسامية والتي ماهي إلا وجه خفي للعصبية كما عبر عن ذلك السيوسيولوجي إرنست كلينر،إذن علال الفاسي يدعو لفكر اجتماعي موحد تعادلي سليم فنجده يقول”ونحن معرضون كل الإعراض عن التفكير بالآلاف الجائعين والجائعات” ص16 هل هذا معناه أن علال الفاسي اشتراكي؟ لأن هذه المقولات نجدها أيضا في الأدبيات الاشتراكية، بل بالعكس فهو ليس اشتراكيا هو تعادليا أما هذه الأفكار التي نصفها بالاشتراكية هي أصلا مبادئ إسلامية متأصلة والإسلام يدعو إلى التكافل الاجتماعي وهو ما أصبحنا نتحدث عنه اليوم بالحرب على الفقر، وهنا يظهر أيضا الحس الإنساني المرهف عند هذا الزعيم، إن علال الفاسي يبني تنظيره على أسس علمية في البحث عن الأسباب والمسببات وتشخيص الداء ووجوب وجود الدواء أو الحلول فهو يقول”يجب أن نبحث عن الجائع لماذا جاع وما الذي يمنعه أن يشبع وماهي الوسائل التي يمكننا أن نعملها من أجل التخفيف عنه وتحسين حالته” ويدعو إلى إحداث ثورة عل الفقر ولكن بوضع آليات تحاربه ويعتبر أن من واجب المجتمع والدولة إيجاد هذه الحلول لتحقق تضامنا اجتماعيا موسعا يبدأ بتغيير الذهنيات والعقليات لتتقبل الآخر وتتخلى عن الأنانية داعيا إلى وضع قطيعة مع كل تفكير سابق فيه نوع من التعالي ولا يواكب العصر فنجده يقول “كما يفهمها الإنسانيون في هذا العصر لا كما فهمها أسلافنا في عصر الانحطاط الأخير”فهل علال الفاسي يدعو لعقوق اجتماعي لأجدادنا لا بل على العكس فهو يشخص الداء بدقة وبجرأة نادرة يعترف بأن أصل الداء فينا لذا وجب بشرط حتى وإن كان من أنفسنا وأجدادنا فعلينا أن لا نتشبث بالماضي وأن نفكر بشكل واقعي يتفق مع روح العصر لأن مأساة انحطاطنا في تفكيرنا الاجتماعي وفكر اجتماعي منحط يسهل غزوه أو تهجينه والفكر الذي يدعو إليه علال الفاسي لم نصل إليه في الآن لأن التطور في هذا الاتجاه يقع ببطء وفي هذا الأمر دائما فإن علال الفاسي يحمل جزء كبير من المسؤولية للطبقة البرجوازية إذ قال فيها التي تخشى من كل جديد وتخاف من كل تفكير في أي تطور يطرأ عليها ص:18 وفي هذه المقولة رد على كل من ادعوا من قبل بورجوازية علال الفاسي هذه عارضة فقط لإنصاف الرجل الذي شنع عليه الكثير وفي ذلك دليل على أن من تقولوا عليه لم يقرئوا ما كتبه ومع ذلك فإنني مرة أخرى لا أقول أن علال الفاسي تحدث بشكل عام في هذا الأمر بل تحدث في المسؤولية فيه بشكل منقوص فليست البورجوازية وحدها من يتحمل المسؤولية بل حتى الفئة المسحوقة فهي مسؤولية مشتركة فما أعيب عن الأولى عدم انفتاحها على الفئة الثانية في حين أن لهذه الأخيرة أيضا مسؤوليتها فقد انقسمت إلى ثلاث فئات، فئة وجدت في التواكل والجمود غايتها، وأخرى أرادت أن تترقى بشكل سريع وفي وقت قياسي وهنا نسوق مثال الهجرة خارج الوطن والتجارة في المخدرات والجريمة المنظمة وغيرها وفئة أخيرة مثقفة بنت حياتها بعصامية وهي ذاتها انقسمت إلى قسمين، قسم انتقل إلى درجات عليا وبقي مرتبط بأصوله وآخر انسلخ بالمرة عن أصوله وتاريخه الأسروي فعلال الفاسي ربما أغفل الحديث عن مسؤولية الفئة المسحوقة أيضا ربما لتعاطفه الشديد معها أو لتركه لنا باب الاجتهاد في محاولة فهم الأمور بشكل أعمق. إلا أنه يقدم حلول منطقية وصالحة لزماننا قبل زمانه وذلك عن طريق وضع برامج لمحاربة اللاتوازن اجتماعي ويعتبر ذلك بمثابة عقيدة الشيء الذي لن يتأتى إلا بحب الوطن وإحلال العدالة الاجتماعية فيقول “ولكن هذا التفكير لا ينبغي أن يقف عند النظر وعند التصميم للمنهج بل يجب أن يصبح عقدة راسخة في النفس يذكيها شعورنا بحب الوطن وحب العدل” لينتقل الزعيم في تنظيره الفلسفي للحديث عن شمولية الفكر فيقول “ولابد لتحقيق روح التضامن بين أفراد الأمة وطبقاتها من تربية التفكير الشامل الذي يعانق كل الموضوعات التي تتوقف عليها نهضة الأمة” ص:20، بمعنى القيام بنظرة عامة تحقيقية في الأمور المطروحة علينا ودراستها من جميع الزوايا لا أن تكون النظرة قاصرة أي رؤية الأمور بشكل تركيبي لا تهمل فيها الجزئيات وتدرس من خلال علاقاتها التفاعلية المكملة لما بعضها إذ أن لكل شيء عدة أسباب ومسببات فبدل العلة هناك علل وأعراض وبالتالي فلا نتحدث عن الحل بل الحلول واختيار الأصلح لأن نظرة التفكير شمولية لا حصرية ولا انتقائية إذ يتم استحضار كل المكونات المفسرة للحالة وبالتالي إن لم نفكر شموليا كان فكرنا قاصرا لا يفي بالمطلوب ولا تكون الحلول معقولة بل مضرة فعلال الفاسي يعتبر كل فعل بمثابة موضوع مركب من عدة أجزاء ما بين فصول وفروع وجب دراسته الكل دون إهمال لأي جزء حتى يتم وضع الخطة المناسبة للفعل تراعي كل جوانبه فيأتي الحل صامدا لا ترقيعيا أو لحظيا لا يصمد كثيرا في وجه المتغيرات، كما أن الحل بالفكر الشامل يهم الكل لا قطاع دون آخر بل يتم التفاعل التركيبي بين المجموع وتظهر وحدة فكرة علال الفاسي في واقعنا المعاش إذ أننا نحقق نجاحات هامة في بعض القطاعات إلا أنها لا تؤثر في نجاح القطاعات الأخرى لأنها تمت في منظومة فكرية أحادية ولم تراعي الشمولية حتى يصبح نجاحها عاما لا قطاعيا لدى نجد حركة التطور بطيئة وليست بالسريعة رغم بذل مجهودات جبارة وهي الإشكالية التي عرفتها كثير من الحكومات المغربية المتعاقبة إذ حققت إصلاحات ونجاحات ولكن بشكل بطيء وبتأثير ضعيف لأن عنصر التمييز الفكري الذي حكمها أحادي قطاعي وليس شمولي وهو الشيء الذي خلق هوة بين قطاع متطور وآخر متطور ببطء لا يواكب الآخر ولبناء فكر شمولي يدعو علال الفاسي للتحرر من سيطرة الآخرين فنجده يقول”لقد سجنا وعذبنا في سبيل الاستقلال فيجب أن نفكر تفكيرا استقلاليا يشمل كل جوانب التحرر من السيطرة الأجنبية علينا”وهنا نعود مرة أخرى لفكرة الاستقلال عند الزعيم علال الفاسي فمصطلح الاستقلال لا يعني التحرر الترابي فقط بل يشمل الفكر واستقلاله من التبعية الأجنبية وعلال في تفكيره الشمولي يعتبر الاستعمار سلطة احتلال أرض وفكر وهو بالتالي يدعو ويؤسس لتكوين شخصية مغربية منفردة بخصوصياتها كأساس في بناء المجتمع وهنا مرة أخرى وفي سبق لعصره ولعالمية فكره يعتبر الفرد موردا بشريا يجب تأهيله هذا عن الفرد أما عن الأرض فيقول علال الفاسي “يجب أن نعمل على تطور المناطق المغربية كلها تطورا واحدا حتى لا تصبح في الأمة عناصر متفاوتة النهوض فيها ابن القرن العشرين وفيها ابن العصر الحجري القديم” ص22 فعلال الفاسي يدعو للتطور الشمولي وإلغاء الفوارق الجهوية عن طريق وضع برامج عامة وللأسف الحالة التي وصفها علال الفاسي لازالت سائدة فهناك مناطق عرفت تطورا عاليا وأخرى يصح عليها وصف العصر الحجري الذي استعمله علال الفاسي كقرية أنفكو بالأطلس المتوسط والمأساة التي كانت قد عرفتها منذ بضع سنين في وفاة أشخاص كبار وأطفال جراء الخصاص الشديد الذي تعاني منه خاصة في فصل الشتاء حيث تصبح الصورة جلية وقاتمة دون أن ننسى أنها مناطق كانت تعيش نفس الوضع تقريبا من التهميش ولم تفك عنها العزلة إلا في العقد الأخير حيث لم تكن تتعدى صفتها المدن القروية فأصبحت مدنا نموذجية تفوق أحيانا سابقتها كما هو الحال في مدن الشمال خاصة مدينتي المضيق والفنيدق واللتين أصبحا ينظر لهما بكثير من الإعجاب وتشد إليهما الرحال لا للتبضع بل للسياحة والوقوف على النموذج المتطور للمدينة الصغيرة الخلابة وهي أمثلة من الواقع تعطي المصداقية لنظرية علال الفاسي في التفكر والتطور الشمولي، وتوقفت في هذا الباب على جملة معبرة وعجيبة قال فيها علال الفاسي في حديثه عن الفلاح “وأن نهتم كذلك بالمقام الذي يجب أن يشغله الفلاح في الهيئة الاجتماعية وما يترتب على ذلك من كل ما يرجع لإصلاح أنظمة الملكية الزراعية وعلاقتها بالمزارعين” فما أدهشني فعلا هو هذا البعد التنظيري الشمولي في التفكير الذي له سبق عصره فما قاله ينطبق على الجوهر في فكرة المغرب الأخضر الحديثة في مسألة التجميع والتي في الحقيقة أحدثت ثورة في الميدان الفلاحي فالأمر فطن له علال الفاسي مبكرا وبرنامج المغرب الأخضر الفلاحي جاء ليحدد العلاقات بين المزارعين والملكية وإنشاء تعاونيات كبرة للتجميع وتأطير الملاكين الكبار للصغار وإحداث حصص للمساهمة وهو ما ينطبق على ما دعي إليه علال الفاسي في تنظيره للعالم القروي فمجال اهتمام علال الفاسي لم ينحصر قط في المدينة والحاضرة بل امتد للقرية والبادية ولم ينحصر في الملاك دون المزارع ولا بالباطرونا دون العامل، ولا بالرجل دون المرأة ولا بالكبير دون الصغير أي الطفل وأطلق على منظومته الفكرية التجميعية هاته مقولته الشهيرة “الكل للكل والواحد للجميع” مؤسسا لفكرة الفرد في خدمة الجماعة. لينتقل في تحليل في فكرة الفلسفي لمسألة جديدة أتى بها لم تكن شائعة في المغرب ولا زالت لم تأخذ بعد بعدها الفكري بالشكل المطلوب، إذ بقيت نخبوية وهي مسألة إحاطة التفكير فيقول علال الفاسي “ثم إن علاقة كل واحد منها ببعضها ومكانه في الانسجام الكامل لمجموع تلك العناصر”أي تحديد العلاقات العامة والخاصة فهو يأصل لإحاطة التفكير بعدد من الثوابت التي تحميه من الهزات الاجتماعية ويستحضر في تلك العناصر مفهوم الكلية أي الشاملة المانعة من روحية، اقتصادية،اجتماعية، سياسية وقومية فهو يؤسس لعلاقات اجتماعية جديدة تحكمها روح القوانين مشددا على حرية الفكر كأهم جانب من عناصر الإحاطة ويعطي لذلك نموذجا لشيوخ الأزهر الشريف مستعملا كلمة الرجعية والتي نعثر عليها بكثرة في الأدبيات اليسارية ولا مشكل عند علال الفاسي في استعارة هذه المصطلحات مادامت هي التي تفي بالدقة المنشودة فلا مصطلح خاص بمذهب دون آخر فنجده يقول”فما يزال في الأزهر وفيما حوليه فصائل كثيرة لها نفوذ كبير في أوساطك الأمة وقد تطورت في لغتها وفي أساليب خطبها ووضعها ولكنها ما تزال تمثل الرجعية الجامدة. ففي مفهوم الإحاطة يربط مفهوم اللغة بما يقابله من العمل فاللغة وحدها وإن وجب إتقانها فهي غير كافية للتطور دون مرافقة عوامل الإحاطة الأخرى ويذهب في تحليله إلى ما هو أبعد وما لم يكن معروفا في ذلك العصر فيقول”إن خدمة القضية السياسية تفرض علينا عدم مجابهة الشعب في كثير مما اعتاده ولكنني واثق من أن قليل من الجرأة والثبات إلى جانب الحكمة في أساليب العرض سيعرف أمتنا بالمصالح الحيوية الروحية والمادية التي ينبغي أن تمضي في سبيل إدراكها ص27. وإني لأجود في الكلام يوطأ لما يعرف الآن ب Raison d'état أو ما يمكن ترجمته للوضع القاهر للدولة مؤسسا بذلك لفكر جديد لم تكن البلاد إذ ذاك مهيأة لإدراك معانيه وعلى كل حال فهو كان يبني برنامجه السياسي في كتاب النقد الذاتي للمستقبل ولم يكن يتحدث عن الحاضر في ذلك الوقت لكن أهم شرط كان لديه لتطبيق برنامجه خروج سلطات الحماية من المغرب أولا، فالخطاب كان موجها بالأساس لجيل ما بعد الاستقلال فعلال الفاسي من خلال مقولته وبكثير من الواقعية والبرغماتية السياسية قل نظيرها يقول بأن الدولة قد تتعرض لعدة إكراهات وتضطر أحيانا إلى اتخاذ قرارات مؤلمة قد لا تكون في صالح الشعب ولكنها تبقى الوسيلة الوحيدة للخروج من النفق نحو التطور وعلال الفاسي يراهن على تفهم للشعب لمثل هذه الأمور لكن شرط أن تعرض عليه بشكل جيد وبوسائل الإقناع التي تجعله مقنعا ليكون مشاركا ومتفهما لطبيعة القرار رغم صعوبته فهي يتحدث عن قرارات مصيرية بتكتيكات صعبة لكنها أساسية وهنا وفي دول أخرى وجدنا أمثلة على ذلك بعد مدة كبيرة من تآليف علال الفاسي لكتابة النقد الذاتي وطرحه لهذه المسألة ففي الأرجنتين مثلا كان على الدولة ولضبط ميزانيتها العامة لأجل الانطلاقة نحو التنمية تخفيض كتلة أجور الموظفين في الميزانية العامة للدولة فما كان لها إلا اتخاذ القرار الصعب بتسريح عدد من الموظفين فكان قرارا مؤلما إلا أنه كان ضروريا استقرت معه ميزانية الدولة وانطلقت الأرجتين في تطورها، ونفس الشيء ولكن بشكل معكوس وقع عندنا في المغرب فابتكرت الدولة مسألة المغادرة الطوعية إلا أنه كان قرارا مؤلما على الإدارة هذه المرة وليس على الشعب إذ فقدت كثيرا من خيرة أطرها إلا أن النتيجة العامة كانت إيجابية، ودائما وفي مفهوم الإحاطة فإن علال الفاسي يدعو لتجديد فهم الديانات ويعطي مثالا على ذلك بالطائفة اليهودية فيقول»إنه مثال الطوائف اليهودية التي كونت لنفسها نهوضا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ولكنها أهملت في حساب انبعاثها ضرورة التجدد في فهم الديانة اليهودية والتطور في إدراك أسرارها»ص 26، فهو يدعو إذن لمراجعة وقراءة دائمتين للفكر الديني والدين على وجه الخصوص الشيء الذي يعتبره ضروري لتجديد فهمه فهو يعتبر الدين عنصرا متحركا وليس بالجامد لذا وجبت دراسته لفهمه بحسب كل عصر فالزعيم علال الفاسي لا يقبل التطرف في الدين ولا يقبل بأخذ جمله كثوابت إذ يجوز دراستها وفهمها مادام الدين وخاصة الإسلام يقوم على أسس علمية فالبحث يؤدي إلى فهم أعمق لجوهر الدين وأسراره وما دعاه إليه علال الفاسي بدئنا نلمس نتائجه الحميدة في العصر الحالي فبعد دراسة الدين بشكل علمي بدأ الحديث عن دلائل الإعجاز العلمي في القرآن مثلا كما تمت محاولات لفهم بعض النظريات العلمية انطلاقا أو استئناسا بالقرآن الكريم كما أن كثير من العلماء العالميين أسلموا حين حاولوا فهم القرآن بشكل علمي وكثير من الشباب أيضا ارتبطوا بالدين حين تم فهمه بهذه الطريقة في حين أن الذين تشبثوا بالنص الحرفي الدين دون فهمه ومطابقته للعصر ولا أقول تأويله بل أتحدث عن أسلوب علال الفاسي في الفهم بإحاطة التفكير أقول أولئك انتهى بهم الأمر إلى إما التطرف أو الجمود في فهم الدين وبالتالي رفضهم لكل المقولات التي لا توافق تزمتهم فأعلنوا حرب فكرية ضد الآخرين ساهمت في ظهور مفهوم الإرهاب وبالتالي إلى خلق عنف اجتماعي والحالة لا تنطبق على الدين الإسلامي وحده، بل التطرف هم حتى الآخرين فحين نتحدث عنه يجب أن نتحدث عن تطرف يهودي، مسيحي وإسلامي ولكن للأسف الشديد حين يتم الحديث عن التطرف الديني يتم تجاهل اليهودي والمسيحي لا لشيء سوى أن الآخرين سلطوا وسائلهم الدعائية علنيا كما أن المسلمين لم يعملوا على إفهام الآخرين اعتدالية وعلمية الدين الإسلامي وإبراز الجوانب المظلمة والمتطرفة في الديانات الأخرى أليس إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل يجد مبرراته في الثوراة فحين يتم الهجوم مثلا على قنا بلبنان وتسمى العملية بعناقيد الغضب وهي مستلهمة من الثوارة أو كما جاء في سفر التثنية وكل تراب تدسه بطون أقدامكم فهو لكم من البرية إلى لبنان دعوة حركة للعنف والتطور واللاتسامح وحين ترزخ سبتة ومليلية والجزر المغربية في عرض البحر الأبيض المتوسط تحت الاحتلال الإسباني في الأصل بحروب صليبية شعارها التطرف المسيحي فعلال كان محقا بوجوب إحاطة التفكير في الدين وتجديد فهمه. كما أن علال الفاسي وفي مفهوم الإحاطة الفكرية يشدد على الابتكار والإبداع والخلق بدل الركون للقديم وللنماذج الجاهزة المستوردة ولا يتأتى الابتكار إلا بالتأمل والتفكير العميق كما يدعو إلى المعارضة الفكرية الهادفة لا المعارضة لأجل المعارضة فهو يرى ولا يمكن إلا أن نتفق معه أن الإنسان حين يعجز عن الابتكار فهو يعارض لا لشيء سوى لأنه عجز عن الابتكار وهذا لازال حاصل لحد الآن فئة عريضة من الناس لا يهمها سوى المعارضة في غياب تقديمها لأي بديل فلا هي تبدع وتبتكر ولا هي تترك الآخرين يتولون هذا الأمر ويعطي الزعيم علال الفاسي مثالا على ذلك بالقول «لقد ابتكر واحد من شعراء الغزل المغربي وقصة الحراز، فكانت المثل الذي لم يفكر غيره إلا في معارضته دون النسج على غرار صاحبه في الابتكار» ص28-29 ومرة أخرى وفي باب الإحاطة يعود علال الفاسي للحديث عن الفلاح ولكن هذه المرة في إطار تحديد المسؤوليات والمحاسبة فيقول»لقد تناولنا قضايا الفلاح المغربي ولكننا لم نتحدث فيها إلا عن الجهة التي يسهل على الكل أن ينظر إليها، لم نتناول غير جانب الاستعمار والذي انتزع الأراضي ولكن هل اهتم تفكيرنا بغير إحصاء الأراضي المنتزعة والتشكي من أمرها؟ هل تناولنا بالنظر أو بالكتابة نواحي أخرى تكشف هذا الموضوع؟ ماهي الأساليب التي استعملها المستعمر لانتزاع هذه الأراضي وما الذي أعطاه الوسائل الشكلية التي استطاع أن يحقق بها أغراضه؟ من هم السماسرة الذين تدخلوا في الموضوع ص29، إنه يدعو للجهر بالحقيقة المرة ويؤسس لفكرة المحاسبة والمسائلة دون انتقائية ودون انتقاء الأسباب لتحديد المسؤوليات والهروب إلى الأمام خوفا من المسائلة ومعرفة الدواعي والدوافع الحقيقية للفعل وفي هذا الإطار يذهب ابعد من المسائلة إلى مقاضاة المتلاعبين من انتهازيين وسماسرة ومن سهل لهم الطريق كما يتحدث عن التقنيات والوسائل الدنيئة التي يتم استعمالها والواقع أنها أمور لازالت مشاكلها قائمة في الميدان الفلاحي ونعطي مثال على ذلك من توزيع أراضي سوجيطا وما رافقها من نقاش وكذا مشكلة بنك القرض الفلاحي، إن علال الفاسي في حديثه هذا يعطي أيضا اهتماما كبيرا للتنمية المجالية بالعالم القروي والذي ركز عليه كثيرا على اعتبار اقتصاده الهش ومجتمعه المغلق لذا وجب إعطائه الأولوية في التطور والنهوض وخلق آليات جوهرية لانبعاثه من جموده فنجده يقول»ماذا كان مقدار اهتمامنا بالقرية نفسها؟ وماهو الوقت الذي شغلناه في التفكير في وسائل إنهاضها وتجديدها؟ إن مداشرنا متفرقة وإن فلاحينا يأبون أن يتجمعوا في الجهة الواحدة على كثل كبرى ويضعوا مواشيهم في مكان مجتمع لأنهم ما يزالون يفكرون بالفكر الذي يدفع كل واحد منهم لحماية مكسبه بنفسه»ص30. إنه أولا وقبل كل شيء سبق كل الأحزاب التي تدعي اليوم أنها أول من اهتم بالعالم القروي ويظهر بالملموس والحجة والبرهان أنه أول من نظر للعالم القروي وأدخله في اهتماماته وبرنامجه السياسي وثانيا يعطي تشخيصا دقيقا لمأساة تخلف العالم القروي المغربي ويعطي بعض الحلول الإستراتيجية وأكد على كلمة الإستراتيجية والتي جزء مهم منها يوافق برنامج المغرب الأخضر الحالي خاصة فيما يتعلق بالملكية وتربية الماشية أو ما عبرت عنه إستراتيجية برنامج المغرب الأخضر سياسة التجميع. ليختم باب الإحاطة بالكلام عن العقل المغربي ويدعو وبطريقة فيها كثير من اللباقة إلى إعلان الحرب عن الأمية ونجده يقول»إننا نريد أن ننضج العقل المغربي ونعده لما يصبو إليه من حرية واستقلال» إنه يدعو لتكوين عقل مغربي جديد مبدع وخلاق تاركا مسألة انتقاد هذا العقل لمن يأتي بعده وعلى رأسهم المفكر الراحل محمد عابد الجابري. هكذا إذن هي الفلسفة العامة في فكر علال والذي مبدئيا لم يقيد حرية الفرد إلا في حالة واحدة وهي حالة الفساد والإضرار بالغير والتي للمفارقة العجيبة هي نفسها مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.