خلال قراءتي لكتاب " العمى المطلق" للصحفي الفرنسي الإسرائيلي "شارل أندرلين" مراسل القناة الفرنسية الثانية منذ أكثر من ثلاثين عاما في القدس ، وصاحب ثلاثة كتب ، يعتبر كل واحد منها مرجعا ، لفهم واقع الصراع العربي الإسرائيلي ، الذي يختزله الكاتب أساسا في صراع إسرائيلي فلسطيني، توقفت عند جملة لا تحتل من الكتاب ثلاثة أسطر، من بين صفحاته التي تقارب الأربعمائة ،هذه الجملة تقول إن الصحفي "فلان" من "إيوديت أحورونوت" قد قام بتجنيد ملحقيه في مختلف الإختصاصات ، لتأكيد أخبار حصل عليها وينوي نشرها بعد إثرائها. وتصورت ، هكذا يكون العمل الصحفي ، فهو عمل جماعي يتطلب جهدا متنوعا ينفذ إلى عمق الأشياء ولا يكتفي بالمظاهر الخارجية أو يتوقف عند حدها. وقوة العمل الصحفي تتأتى من طبيعته كعمل جماعي ، يستند إلى معلومات ، موثوقة ومؤكدة ومحينة، ثم وبالخصوص مثراة بمعطيات إضافية ، توثيقية تسجيلية سواء من الكتب أو الدوريات واليوم من الإنترنت. وقد ذكر لي الصديق الصحفي والزميل امحمد كريشان المذيع والمقدم في قناة الجزيرة، الذي يقف( دون ظهور) وراء حصص الخميس للأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل ، أن الرجل يعتمد في مكاتبه في ضواحي القاهرة على مجموعة مهمة من الموثقين ومن الإختصاصيين في الإستراتيجيا والجيوبوليتيك والإقتصاد يعدون له المعطيات التي سيتولى ترتيبها ثم تقديمها في حلقاته المتوالية. ولعل المرء يعجب من غزارة المعلومات ، ودقة المعطيات ، المرفوقة بتواريخ مضبوطة ، وتطورات مرتبة، وذلك ليس صدفة بل هو نتاج مجهود منظم مرتب وكبير ، هو السر في العمل الصحفي الناجح . وكما الكتاب اليوم ، وكما الشريط السينمائي فالمقال الصحفي ، لم يعد ذلك الذي يعدد المواقف دون خلفية عميقة من المعطيات ، والمقال الناجح هو ذاك الذي يستند إلى أساس صلب من التوثيق ، واحتمالا الذي تشترك في إعداده عدة كفاءات من تخصصات مختلفة. ولقد ولى عهد المقالات الإنشائية ، القائمة على تنميق عبارات جميلة ، ولكن فضفاضة لا تضيف شيئا للقارئ، وولى عهد ترصيف الكلمات المتناسقة ، ولكن التي لا تعتمد حدثا ولا تطورا ولا تحليلا . ولى عهد صحافة ، تعتمد الجهد الشخصي المنفرد ، بلا بحث ولا تنقيب ، بلا وثائق ولا خلفية، بلا مراجع . فهل لنا أن نتساءل هل إن صحافتنا العربية خاصة المكتوبة قد تجاوزت عهود المقالات التي لا تضيف والتي قد تتملق العواطف، وتعتمد التحميس دون خلفية من حقائق معينة. لا نظن. إننا وفي عصر المكتوب لم نتجاوز عنتريات الخطابة ، وهو ما يتطلب أن نستيقظ عند ما بلغته الصحافة المتقدمة. وإني أقرأ بعض صحفنا ، فأتذكر عهد أحمد سعيد في صوت العرب في الستينيات ، اجترار لكلمات ليس لها من هدف سوى إلهاب المشاعر، فأتساءل ، لماذا نبقى غالبا على نفس الموجة بعد 50 سنة أو تزيد. *كاتب صحفي رئيس تحرير صحيفة الصباح التونسية السابق [email protected]