قبل أن تستقر الشعوب على اللهجات واللغات كان الإنسان البدائي يقلد أصوات الطبيعة بطريقة مطابقة، فكان لصراخه دلالات عميقة لا تخلو من التعبير عن صراعه المستمر مع الطبيعة. وقد استخدم الإنسان حنجرته لإخراج أصوات وإشارات تعبر عما يريده أو ما يخالجه، فعبر بصوته عن حالات الفزع أو الدعوة إلى النجدة أو المشاركة الجماعية في دفع الخطر. فالصراخ والآهات كانت هي الطريقة المعبرة. وبالحركات التعبيرية استطاع الإنسان أن يتناغم مع الأصوات التي تُحْدثها الطبيعة. وقد دأب على تقليد هذه الأصوات فاهتز لبعضها وتمايل لبعضها الآخر وتغنى بها، كما عبر بها عن فرحته وحسرته. مرّت أزمنة عاشها الإنسان مع لغة موسيقية، وحدته، وتجاوزت كل الحدود والمعتقدات. تطورت الموسيقى مع تطور الإنسان، حيث برّر بالصراخ والإيقاع وجوهده فأحدَثَ طبولا ليقرعها، وقصبات ليسمع صفيرها كما طوّر مختلف الآلات لتتميز شتى الأصوات والإيقاعات والنغمات. ورغم تعدد الآلات الموسيقية بقيَّ صوتُ الإنسان مميّزاً بعذوبته وجماله. فقوة الصوت تجمع بين جميع ما اخترع من آلات يتمازجُ معها بعذُوبته ليحْدث بدوره رنّة ونغمة وإيقاعاً وتعبيراً عن حدثٍ ما أو صورة من صور الحياة المعاشة أو المتخيلة. الموسيقى لغة لكل الأزمنة، فهي كلمات وأشعار ومواضيع مختلفة يعبّر بها الموسيقيُّ عمّا يريده وما يحْياه، وما يمكن أنْ يحرّرهُ من نظام حياةٍ روتيني ومعقّدة. وقد تفعل الموسيقى بنا ما تريدُه وما نُريدُه وما لا نُريده، وقد نفْعل بها ما نستطيع لكنها تبقى الأقوى من حركاتنا ورقصاتنا فلكل واحد منا طريقته في التعبير عما يسمعه، قد يُطربه ويُفرحه أو يُبكيه أو يُشفيه ويُسعده. ومهما اختلفت الإيقاعات والنغمات ستبْقى الموسيقى كما كانت على علاقة دائمة مع الطبيعة، تعيدنا إلى الماضي إن شاءت بكل أحداثه وتجعلنا نعيش الحياة في أبهى صورها وأرقاها، وأشدّها بؤساً وأطْيبها فرحاً، كما أنها تحمل معها الأمل وتجعلنا نحلم بالغد الأفضل. هذه هي الموسيقى، أكاديمية كانت أو ارتجالية تدق القلوب وتطرب الآذان وقد تُزعجها أحيانا لكنها وكما كانت قديما تبقى أدق لغة للتواصل بين الشعوب.