كان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي محقاً في تخوفه من أن تكون الفترة التي تلي الإجازة الصيفية ساخنة، فهذا ما حدث تماماً، وهو الآن يعيش وضعاً لا يحسد عليه، ففوق استطلاعات الرأي التي لم ترحمه أبداً. إنه الآن يصارع لإقحام الإصلاح التقاعدي التاريخي وفرضه على الفرنسيين، الذين شبهه البعض منهم برئيسة وزراء بريطانيا السابقة ، مرغريت تاتشر، وها هو الآن يواجه أكبر اختبار للقوة ضد النقابات المعروفة بولعها بالقتال والمواجهة. الإضرابات ترتفع وتيرتها في فرنسا، والمضربون في ازدياد كبير، وكثير من المصالح والخدمات الأساسية تعطلت، وطالت مرافق حيوية مثل مطار شارل ديغول، الذي يمر بأزمة نقص حقيقية في الوقود، بعد أن توقفت مصافي البترول عن العمل. وبانتظار حسم الوضع على الصعيد المؤسسي، فإن الأيام الحالية تعتبر من أكثر الأيام دقة وأهمية في حياة ساركوزي السياسية، وسيستمر الضغط على الحكومة بقوة، لكن النتيجة من الصعب حسمها في المرحلة الحالية. كما يرى أحد المتظاهرين ، وهو بيير بريشون، من جامعة غرينوبل للعلوم ، الذي قال: الا تريد الحكومة أن تتزحزح قيد أنملة عن موقفها، لكن ما تريده يختلف عما ينبغي عليها فعله، لهذا فمن المستحيل التنبؤ بمن سيفوز في تلك المعركة، ولا يمكننا الجزم بهذا إلا بعد انتهاء الصراعب. أما روماني، وهي إحدى المتظاهرات المراهقات، فقد خالفته بالقول: «سوف نستمر في إضرابنا حتى نحقق أهدافنا، وما لم يستمعوا لمطالبنا، فستنشأ مشكلات كثيرة في فرنسا». تلك الفتاة المراهقة ليست وحدها، فقد جاءت بصحبة الألاف من طلاب المدارس الذين انضموا لتلك الإضرابات أخيراً ليزيدوا موقف ساركوزي حرجاً، ويرسلوا برسالة يقشعر لها بدن المؤسسة اليمينية في فرنسا، لأن مظهر الطلاب وهم يقفون جنباً إلى جنب مع العمال يذكر الحكومة بمظاهرات الماضي وثوراته المتأججة. فمنذ عام 1968، كانت الحكومات الفرنسية المتعاقبة تضطر للرضوخ لمطالب الشعب، والتنازل عن الإصلاحات المزمعة بسبب ضغط المتظاهرين في الشوارع، ويتوقع عالم الاجتماع ، ميشيل فيز، أن تؤدي تلك الإضرابات لما أدت إليه إضرابات ماي عام 1968، ب حسب ما قال لصحيفة «لو باريزيان»، أخيراً. حيث يرى أن الموقف الحالي شبيه بالموقف في الماضي، ويتوقع أن ينتج عن تلك الإضرابات حركة اجتماعية كبيرة، ومن الخطأ الحكم على تلك الحركة بأنها لا معنى لها، فهي أكبر تظاهرة يشهدها ساركوزي في حياته السياسية، لهذا فإنها تعد، بالنسبة للرجل الذي وعد بجر فرنسا نحو إصلاحات جذرية للسوق، اختباراً حاسماً. فهل سينجح في فرض إصلاحات يرى أنها ضرورية للمستقبل الاقتصادي لفرنسا، أم سيتقهقر أمام غضب ملايين العمال وثورة الشباب؟ يقول جاك ريلاند ، من معهد السياسة العالمية في لندن: «حتى لو فاز ساركوزي في تلك المعركة ، فإني أظن أنه سيكون نصراً قصيراً»، وجاك هو واحد من كثيرين يرون أن تلك الإضرابات سوف تؤثر كثيراً في فرص إعادة انتخابه عام 2012، وأنه قد يفوز في هذه المعركة ، لكن ذلك لا يعني فوزه في الحرب. الكثير من المتظاهرين أبدوا احتجاجهم على السياسات التي يتبعها ساركوزي، بشكل عام، وليس فقط على الإصلاحات المتعلقة بسن التقاعد التي يعتبرونها غير عادلة بالمرة، ويرون أنها تمثل الصورة التي عرفوا بها ساركوزي خلال سنوات حكمه الثلاث، وميله للوقوف إلى جانب النخبة على حساب الأغلبية. ويتعاظم الشعور بالظلم والغبن لدى الفرنسيين، خاصة في تلك الفترة التي لم تهدأ فيها بعد تداعيات فضيحة وريثة لوريال، المرأة الأغنى في فرنسا، حيث أمضى وزير العمل الفرنسي ، إريك ويرث، فترة الصيف في محاولة حلها. لا شك أن حكومات أوروبا الأخرى تراقب باهتمام كبير الوضع في فرنسا، فكلها تمر بظروف وتحديات مشابهة متعلقة بالعامل السكاني وضغط الميزانيات، في ظل أزمة مالية عالمية لم يخب أوارها بعد، وتبدو فرصة النقابات اليسارية في فرنسا، في منع إصلاحات التقاعد الجديدة، أكبر من مثيلتها في الدول الأوروبية الأخرى. لكن المراقبين يرون أن من المبكر الجزم بهذا، خاصة أن النقابات تدخلت في تلك الإضرابات في وقت متأخر، كما أن الحزب الاشتراكي منقسم وعاجز عن تأليف معارضة متماسكة. رغم موجة التفاؤل التي تسود المتظاهرين في المدن الفرنسية، فإن الوقت يجري لصالح ساركوزي، ويبدو أن الكفة سترجح لصالحه في النهاية، ويأمل مؤيدوه، الذين ينظرون إليه باعتباره رجل إصلاح، في أن ينجح في إعادة تقديم نفسه كقائد يفعل أكثر مما يقول. هناك مجموعة من القوانين أقرّت في الشهور الأولى لتولي ساركوزي منصب الرئاسة، تنص على أن يوم الإضراب سيكون بلا أجر بالنسبة لمن يتغيب عن العمل، وهذه القوانين أثرت كثيراً في سير الإضرابات. حيث إنها لم تنجح في شل حركة المواصلات والمرافق الحيوية تماماً، كما هو متوقع، ولم يتعد الأمر سوى بعض الاعتقالات التي لا تقدم ولا تؤخر، فحتى الحواجز التي نصبها رجال الشرطة لم يتم إحراقها، والحجارة لم يتم استخدامها، أما فيما يتعلق بإيقاف عمل المصافي، فهو الاستثناء وليس القاعدة. ليزي ديفيس