في زمن التفاهة، حينما نفتقد شروط الجودة في الإبداع وفي الحياة بصفة عامة يصبح الاستغراب إزاء الفطريات التي تنبت في تربة التفاهة في غير محله. قديما حينما كانت أم كلثوم تستميل مشاعر وعواطف الجماهير، كان الصدق عنوانا بارزا لذاك التفاعل العميق، وحينما كان مفكر في حجم أركون أو عابد الجابري أو عالم من علماء العصر في مستوى علال الفاسي، يحدثون الرجات في أعماق المجتمع، فإن الظاهرة كانت تجد تفسيرها الحقيقي في جودة الانتاج الفكري وعمقه بما يرتب تداعيات إيجابية على المجتمع برمته. تغيرت شروط انتاج الإبداع في شتى المجالات إلى درجة أضحى معها كليب تافه لدمية منمقة، قادر على تهييج مشاعر جماهير انتمت إلى عصر افتقد إلى شروط الجودة، وإلى درجة أصبح معها كاتب تافه لعمود أكثر تفاهة في جريدة أو مجلة كفيلا بتوجيه رأي عام وتجييشه في اتجاه النضال من أجل تقويض أسس الجماعة، وركائز المجتمع، وإلى مستوى غدا معها رجل سياسة غبي يلج الفن من شقوق جدرانه لينتج فيلما يسيء للديانات. أضحى من السهل إنتاج نوابغ التفاهة، يكفي أن تخط ريشة رسام فاشل خطوطا لكاريكاتير تسيء إلى نبي من الأنبياء، ويكفي أن يهرول سينمائي آخر للمس بمريم العذراء، شروط النباغة سهلة ومريحة، تنقل الشخص من ظلمات العزلة إلى أضواء الشهرة، يكفي أن يعلن إفطاره العلني في أحد أيام رمضان المبارك، أو يشهر شذوذه الجنسي، يكفي أن يخرج عن النص مهما كانت تفاهة هذا الخروج، وها هو شخص يحتل صدارة اهتمامات وسائل الإعلام، يدفع إلى الخلف بقوة العلماء والخبراء والمثقفين والفقهاء، فلا مكان لقيمة انتاجاتهم أمام السيل الجارف مما تحمله إلينا شروط زمن التفاهة كل صباح. أين الخلل؟ هل مؤسسات انتاج الجودة التقليدية أصبحت متجاوزة ولم تعد قادرة على مسايرة التطورات الإنسانية الحاصلة في المجتمعات؟ هل الخلل في نظم تربوية تنتج قوالب جاهزة للاستهلاك؟ استهلاك ماذا؟ تلك هي المصيبة؟ هل العيب في طبقة المثقفين التي ابتعدت انتاجاتها ونأى تفكيرها عن الانشغالات الحقيقية للمجتمع؟ هل السبب في أن أنماطنا الإعلامية هشة إلى هذه الدرجة ولم تعد تستحمل الجودة في انتاج الرسائل الإعلامية، وانبرت مهرولة نحو مسايرة ما يتطلبه هذا الزمن الرديء؟ هل العيب في الأسرة التي صغر حجمها لكن مؤطريها عاجزون عن إنقاذ أبنائهم من الانجراف مع السيول الهائلة؟. في أحد اجتماعات مسؤولي المؤسسات الاعلامية المرئية العمومية العالمية في بلادنا انعقد قبل سنوات، طرح الاشكال الموقظ، ماهو دور التلفزة العمومية في ترشيد اهتمامات المشاهدين في زمن المنافسة غير المتكافئة؟ للتلفزة العمومية دور وواجب، إنها تمثل المرفق العمومي الذي يؤدي خدمة عمومية دون أن ينتظر درهم ربح واحد، هي الوحيدة التي يمكن أن تعرض مسرحية لشكسبير ولو أنها تدرك أن كثيرا من المشاهدين لن تستهويهم في زمن مرئي ومغشوش يجذب إليه الناس بالجسد النسوي العاري... ولكنه قدرها ويجب أن تمتثل له. في زمن غير بعيد كان المفكر الكبير الراحل محمد عابد الجابري يكتب سلسلة مقالات استثنائية في الزميلة »الصحراء المغربية« ولم تكن تلك المقالات تلقى اهتماما إلا من طرف قليل من القراء، بينما كان يلقى ما تنشره صحافة الرصيف، عشرات الآلاف من القراء ضحايا زمن التفاهة والزيف. اذهبوا إلى أقرب بائع شرائط الغناء وستجدون أن شريطاً واحداً لدمية اسمها نانسي عجرم أو هيفاء وهبي تساوي أضعافاً مضاعفة مقارنة مع شريط يباع لأم كلثوم، أو محمد عبد الوهاب، رجاء اسألوه كم باع هذا الاسبوع من شرائط الستاتي ونجاة اعتابوا (مع احترامنا للجميع) وستقيسون جودة الذوق عند هذه الجماهير المتعايشة في مجتمع واحد. إنه زمن آخر، قد أكون شخصيا من آخر الأجيال القريبة منه، لكنه عصي على فهمي، رجاء لاتسألوا عن الأجيال التي سبقتنا، التي صنعت الجودة في ذوق المجتمع، لأن لها رأياً آخر. فرحم الله زمانا كان الوالي لايخاف أمرا في أن يدخل معه الجريدة إلى بيت أسرته مطمئنا لها، واثقاً من نفعها لأبنائه، ورحم الله زماناً كان أب يستلقي أمام التلفزة واثقاً مما تعرضه، أما اليوم ففي هذه السلوكات العادية مخاطر جمة حقيقية على الأسرة والبيت.