إذا جاز لي أن أبالغ، سأقول هذه الرواية كتبتها بدمي.لم أكن أعرف وأنا أكتبها إلى أين تتجه بي؟ ولا إلى أين أتجه بها؟..لا يتعلق الأمر بحكاية جاهزة أردت التخلص منها بإفراغها في قالب روائي وإنما بتصور ما عن فن الرواية والوجود في هذا العالم يرى أن رؤية الرواية من رؤية الروائي للوجود،ووجود الرواية من وجود الروائي في العالم.لايتعلق الأمر،إذن، بإلهام أو شيطان الرواية؛إذ ثمة ما هو أعمق من الإلهام:التقاط إشارات التحولات الوجودية التي تخضع لها كينونة الكاتب في كل تجليات بشريته المتحولة دون السقوط في مطب المرآوية. تنحو»دموع باخوس» منذ البداية إلى تكسير المرايا: ( الواقع؛ أي واقع؟..التاريخ؛أي تاريخ..الذات؛أي ذات؟..التراث؛ أي تراث؟..) لاشيء جاهز،و التعاطي مع كل تلك المكونات الخام وغيرها يتم من موقع الرؤيا القائمة على السخرية من/ والتعرية لكل تموقعاتنا الهشة،أجسادا وعقولا ومدارك في وجود هش يوهم بالثبات والحال أنه قبض ريح. لاشيء مؤكد،إذن،في وجودنا العابر المحرج بعبثية أدوارنا.لهذا، ربما تكون الكلمات وحدها ما يستطيع أن يكتسب قيمة،وامتلاء،أو ما يشبه المعنى.. تعتني»دموع باخوس» كثيرا بالكلمات،ولم لا أقول بروحانية حروف الكلمات..ولا يتعلق الأمر بزخرفية تجريبوية ،بل بسلطة الإحساس بالكلمات يتسع مداه وتتعمق أغواره في الكتابة.لذلك،تتماهى أحيانا شخصية المؤلف مع شخوص الرواية بعيدا عن قصد التفريغ الأوطوبيوغرافي للهلوسات النرجسية، ودائما في دوامة من اللعب القائم على جدلية الاتصال والانفصال.فالروائي عندما يكتب عن ذاته فلكي ينفصل عنها؛ وإذا كتب عن ذوات الآخرين فلكي يتصل بهم.. من هو علاء؟ومن هو أنور؟ ومن هي روزالي؟ ومن هي فدوى؟ ومن هو الإله باخوس؟ ومن هوجايس بترونيوس؟ ومن هونيرون؟ ومن هوالمهدي بنبركة؟ومن هي شيلا والأخريات؟؟ربما كانت ذواتا واحدة انشطرت، وربما كنت أنا وحدي كل ذلك العدد في تعدد أقنعتي وشظاياي؟ كل شيء،إذن، ممكن ولا شيء محسوم اليوم أو غدا، وأن أكون أنا أو غيري إنسان هذه الرواية فهذا لم يعد مهما الآن..ألا نتحدث عن تكسير المرايا في الكتابة؟..عن الكلمات الشظايا؟..ألسنا بمجرد ما نجرب الغوص في،أو القبض على ذواتنا نفقد اليقين في مبدأ الحقيقة، ويبدأ كل شيء في الانشطار والتشظي إلى ما لانهاية؟ بهذا المعنى،أجد في»دموع باخوس» شخوصا كثيرة وذاتا واحدة..ناطقة وصامتة،تاريخية ومعاصرة،ميتة وحية، مشاركة ومحايدة..ثم هذا الجنون الآخر: نداء الفن؟..لقد أردتها من ألفها إلى يائها خزانا للفنون،تحتفي بالحواس عبر الفن في جذريته: (الرسم / التشكيل /الرقص /الغناء /الشعر /النحت /الفوتوغرافيا ...) ؛وما الكتابة إن لم تفتح حواس الكلمات على منابع الفنون؟فأما إن كان التجريب هو خلخلة الحواس،فأنا اليوم و غدا تجريبي حتى النخاع، وأما إن كنتم لا ترون في القول بالتجريب قيمة مضافة للأدب،فلنكتف بالقول هي كتابة خلخلة الحواس ، وهذا يكفي. أقول،من هنا جاءت كلماتها حارة،مقطرة،مشتعلة، وحادة. سكاكين هي تخترق المادة الخام، نيازك تجتاح الصور والحالات والأوضاع والحكايات،تلاحق المفارقات وتبني الشخوص،تستعيد الذكريات وتؤثث الفضاءات بالاستيهامات،بالكلمات التي يلحمها نظام رؤيوي عنوانه الكبير:الفوضى المنسجمة، حيث التكسير واللحم، التفكيك والتركيب،التقطيع والتوليف،الانفصال والاتصال.. فالروائي لا يكون إلا ضد الاسترسال النمطي الموهم بامتلاك المرجع الخارجي أو وهم المعنى: معنى الواقع معنى الذات معنى التراث معنى المجتمع معنى الجسد.. ..ولنقل، الكتابة عندي مرآة مكسرة أستخلصها من الفوضى المتمترسة في حواسي وخلايا جسدي.من هنا كان تشكل هذا النص العشري بطيئا وعسيرا على الولادة الآلية،صعبا في التنفس والتقاط الأنفاس،مركبا حد التخمة في انبنائه الهندسي؛أليس هذا هو قانون اللعب؟ أيتعب اللاعب من البريكولاج؟ من المحو وإعادة الكتابة؟ من الحذف والتمزيق وإعادة لملمة الشذرات لإعادة صياغتها من جديد إلى ما لا نهاية؟أليس هذا هو البحث عن النغمة الأسلوبية القابلة للعلو والانخفاض،تماما، مثل إيقاع دلفين جريح فلأنه الأقوى من حيث البنية يعلو فوق الماء، ولأنه الأضعف من حيث الجرح ينخفض ويغطس تحت الماء. كل شيء كان واردا في ذهني عند كتابة هذه الرواية إلا استعجال النشر..ولنقل،كانت معاشرتي ل»دموع باخوس»ممتدة في عالم داخلي كثيف،جو روائي هو الفرق عندي بين الرواية واللارواية؛إذ لا رواية بدون جو روائي، والرواية التي لا عالم روائي فيها لا يعول عليها، فكيف لك أن تستخلص من ضجيج سنوات الجمر والرصاص ما هو روائي؟وكيف لك أن تقرأ تاريخ المغرب غير المكتوب، وتستخرج منه ماهو روائي؟ وكيف تمارس أنت المغربي المهلوك مع مغاربة مهلوكين اليومي وتجد في كل ذلك العبث ما هو روائي؟ وجسدي المطوق،المسجون في نواميس الدين والمجتمع والدولة؛أين تنام فيه خلايا الروائي؟..كيف لي، لك، لنا نحن الذين نمكث في بطن مجتمع اللارواية أن نقبض على خلايا الروائي النائمة ؟..كيف لنا أن نوقظها ؟ تلكم كانت وما زالت معضلتي منذ ما قبل الشروع في كتابة «دموع باخوس» وإلى ما بعد أن يهزمني هازم اللذات.. تلكم بعض تصدعات وعناصر وأدوات مختبر الكتابة الذي يتحول فيه عالم الروائي، وجسده البشري المتدهور يوما بعد يوم في مسكوك اليومي المبتذل، إلى مدخل لاستكشاف روحانية روائية مجتمع اللارواية. وربما أكون الآن،والآن فقط،أجد الكلمة المناسبة لأنعت هذا الجهد المتواضع برواية «الجدبة»،مادامت ومنذ نواتها الأولى إلى حين إنجازها على الهيأة التي هي عليها اليوم،لم تنبن إلا على الاستقطار الروحاني لكينونة مهتزة، في علاقة مهتزة بعالم مهتز مليء بالحقارة، والخوف، والألم حد القرف؛ ألا ما أشد ما في هذا العالم من قرف وقلق حيال رعب الزوال؟..ألا ما أهون ما نملكه فيه حيال حقيقة المحو؟..ألا ما أتفه ما نستطيع القبض عليه في السيل الهادر للزمن من وهم الوجود أمام حقيقة العدم؟ تقول لنا الرواية؛هذه أوضاع، وتلك شخوص ؛لكن قبل ذلك وبعده،ثمة كلمات ولعب بالكلمات وإحساس بالكلمات وقوة الكلمات وعنفوان الكلمات فالكلمة هي ما يكون اليوم فراشة ويصير غدا مدفعا الكلمة سكين عطر وردة آهة ذروة شبقية حشرجة محتضر مقبل على الحياة التي يعشقها وهو هالك في فجر أول أيام فصل الربيع سحر الغروب والبحر عشق النساء التفوق على الذات السكر من دون خمر سعال المريض رقصة الديك المذبوح سفر الغريب نحو اللانهائي ويسألونك: لماذا اللعب بالكلمات؟ قل: الكلمة مستودع السر قال صاحبي: أوجز..ما هي رسالتك ؟ قلت مستغربا السؤال: ما أنا بنبي حتى تكون لي رسالة قال: ولكنك تزعم تكسير المرايا قلت: بل أجمع شظايا المكسر من مرايا العالم في كلمات قال: ودموع الآلهة؟ ما لآلهتك تبكي؟ قلت: ليس أقسى على النفس من تخيل دموع الآلهة؟ قال: وماذا تركت للبشر؟ قلت: أترك لك الإجابة على هذا السؤال أيها الحضور الكريم: أترك لكم الإجابة على هذا السؤال؛و ما أوسعه من سؤال؟ مكناس/29 مارس 2010 * نص الورقة التي ألقيتها يوم 5أبريل 2010 بمناسبة توقيع روايتي الجديدة «دموع باخوس» في مقر جمعية التنمية والتعاون مع شمال إفريقيا/كوديناف،وذلك في إطار النشاط الذي نظم بتعاون مع جمعية ملتقى المتخيل المتوسطي بطنجة .