يا منير استيقظ إنه خطأ من دون ريب أن تكون الحياة مسبوكة بالخديعة، الحياة لا تنتهي أبداً لكن العمر ينتهي، وطنجة لا تزال تطلب أكثر مما تمنحه، ليس عليك قول شيء الآن، فأنا أخشى أن يكون غيابك إعلاناً عن النهاية التي حدثنا عنها هيرودوث، هل أواصل سرد تفاصيل حبك لمحمود ميكري، فقط لأنه الوجه الأمثل والأصفى لجيل السبعينيات. أذكر ولعك بهذه الفترة ذات اللمسة الإستتنائية( الحب والسلام) ، حدثتك عن البيتلز(Beatles) فذكرتني بجون لينن (john lenine) وحضوره في جسد قصيدتك. كان مهرجان الفيلم الوطني فرصة للقاء أحبتك، فأي تشابه بينك وبين شكري وأنتما معاً في نفس المكان بمقهى الروكسي. قال باولو اكويلو» المدن لاتموت أبداً ، وحدهم سكانها يموتون».فأجبته « المدن بالنسبة لي، لا تشبه في آخر الأمر إلا مجانينها: براغ لا تذكر إلا بكافكا، بوينس أيرس لا ترى إلا بعيون بورخيس، القاهرة لا تستشرف سوى من مرقاب نجيب محفوظ، ذلك أن كل حواضر العالم، تجعل من مبدعيها سفراء يتكلمون باسمها و يتغنون بها، و قلما نجد مدينة تتنكر لمبدعيها كمثل طنجة، التي جعلت من موت محمد شكري قلبا لصفحة بئيسة طالما أرقت الكثيرين، و إخراسا لأجراس الفضيحة التي وحده من كان يعرف كيف يقرعها في وجه من تعودوا وضع الصباغ، فوق ملامح مدينة دمرتها التجاعيد و الكدمات!!». يا للمفارقة كنت ترفض الأفلام الطويلة، ليس لأنها مملة، بل لأن الحياة لا تحتمل طولها- على حد تعبيرك- أنت المفتون بالأفلام القصيرة، والحريص على تتبع جديدها في مهرجان طنجة المتوسطي ، كنت تشيد بتجارب الآخرين في التماعة نادرة ، وشدك أكثر شريط صديقك منير عبار» باريس على البحر»،كنت تصرخ في صمت حزين لافتقاد طنجة لمركب ثقافي يمكن ساكنتها من الاستمتاع بمختلف الفنون . فلم توقفت حياتك فجأة، وكأنها شريط قصير، هل كنت تعلم أن حبك لها بقصر شريط عمرك، هل تستطيع لوحات فنانك حمزة الحلوبي أن تجسد تجاعيدك في الغياب؟ قلت لي في الركن الأيسر لمقهى باريس» انتهى زمن الملاحم والبطولات، لكن زمن المقاومة لا ينتهي،وكأنك وأنت تحمل صورة شي غيفارا في حقيبتك التي لم تفارقك أبداً إلا ساعة الرحيل، كنت تتأهب لمقاومة أشد شراسة وصعوبة من مقاومتك للعولمة والفراغ.اخترت أيها البهي أن تضيء دروب العدم بعد أن خذلتك زنقة الشياطين، قدمت حياتك قرباناً للقصيدة التي تنصف فقط الشعراء المزيفين وتمنحهم المجد الهجين، وتأخذ إلى أعماق الأرض كل من يخلص لها وحدها ويحبها بافتتنان. لا تقرأ الرواية ولا تحبها تمجيداً منك لمعشوقتك الوحيدة التي كانت تنتظرك وأنت في فراشك الملتهب تحارب الألم بالمجاز، وتحفر في قلب جدران غرفتك شلالات وعصافير، كنت شديد الولاء للقصيدة المنثورة بعيداً عن قيود الفراهيدي ، وأنت المشبع بزحافه وعلله طوال سنواتك الجامعية، أنت المولع بالقصيدة التي تبني أعشاشاً في شجرتها، ولا تضع أقفاصا للإيقاع أو المعنى، فلا يغرد طير إلا اذا كان حراً. اخترت عن عمد الوفاء للمنسيين وحملت ذاكرتهم للقراء، فتحت لهم نوافذ ايلاف ضد النسيان والتهميش» العربي اليعقوبي، الروبيو،عبد العزيز جدير، محمد زيطان...» اخترت الرحيل وتركت صديقك محمد الأزرق يبحث عنك، ويجلس عبثاً ينتظر قدومك..اخترت أن تذهب لزمن بعيد كي تسدي خدمة للسماسرة الذين شحنوا هواتفهم الخلوية كي يتحدثوا ..أنت الذي لم تكن تطيق الجلوس مع محبي السيطرة ، استيقظ كي ترى مدينتك تسير برفقتك إلى مقبرة الشهداء وتغطي وجهك بنهارها المتوسطي.تأخر نديمك فاضل سودني في رحلة العودة من كوبنهاغن إلى طنجة ، ولحظة وصوله لن يجد من يخفف من حرقته عليك . أنت الرائي والمرئي لمدينتك وقد تحولت إلى امرأة هجينة، حملت رحيقها من حكايات شكري والجدات وتقارير علي باي. لم تحملت وأنت العليل ،مشاق حبها القاسي، وهي التي خذلتك وأنت في ريعان شبابك. حقا لم تصدقها، لكننا صدقناك وأنت تعبر وحيداً زادك ابتسامة خافتة وحب لا محدود للأمكنة والأزقة القديمة، صدقناك أيها البهي الأصيل، لأنك تمضي في نفس النهر مرة واحدة فقط، تقترب من الأصلاء في بهو العدم، أكيد أنهم ينتظرونك هناك: طاغور بول سيلان، أراغون، بدر شاكرالسياب، إليوت، بورخيص، يوسف الخال،أحمد بركات، كريم حوماري. وها أنت تحقق حلمك بلقاء سركون بولص في دروب العدم.اخترت أن تقترب منهم ، تاركا رسائل أدونيس وعباس بيضون وعبد القادر الجنابي دون رد. انتهت حياتك كالشريط القصير، لأنك اخترت الإقامة في الأبدية لتكشف لنا حضورك اللامنسي في القلب والذاكرة. أنت هناك تضيء بقصائدك ذاكرة المستقبل ، ونحن هنا نتابع الشريط الطويل الممل على شاشة تشبه وجه حبيبتك طنجة.