في العتمات الأولى لصبيحة يوم السبت 20 فبراير الحالي ، بلغني نبأ رحيل الشاعر والأديب الأستاذ محمد أبو عسل (1936-2010). كان الخبر مستعصيا على الذاكرة مثل الطوفان الذي يأتي بغتة ليحمل أشجارا مكتنزة برائحة التاريخ. جالت في خاطري غيمات كثيفة من الصور عن هذه الشخصية المتدثرة بلباس التواضع، بوجهه الذي يشرق بابتسامة حلوة ومتعبة، عايشت تحولات ومواقف، وهو القادم من دهشة اللغة ورحم القصيدة الستينية التي حمل بعض همومها وأحلامها مع جيل شكل أفقا وبزوغا لأسئلة تأسيسية وجوابا للمرحلة. بعدما حرضه على شجون الكتابة الأستاذ (محمد عزيز الحبابي) ، إذ نال جائزة للشعر كان قد نظمها اتحاد كتاب المغرب ( سنة 1965). ليس ذلك فحسب بل كان لأبي عسل مواهب متعددة ، عبر حفره عميقا في مشهدية اللوحة التشكيلية وتعاطيه تنظيرا ونحتا للألوان ، هو خريخ المدرسة التشكيلية العراقية، رفقة ضياء العزاوي وآخرين... كان شخصية بنكهات مختلفة ، هو الذي أحب الترحال في بدايات ضوئه لاكتشاف جذور الأمكنة والفضاءات وخلق مساحات مع تيه العوالم: طنجة ، فاس ، العراق ، سوريا ، فرنسا ، تركيا ، إسبانيا والقاهرة التي كانت تشهد نهضة ثقافية وفكرية آنذاك ومحجا لطلاب العلم ، ليتواصل مع خلانه الذين نسج معهم علائق وصداقات : إبراهيم السولامي ، أحمد عبد السلام البقالي ، خالد مشبال ، عبد السلام الهراس ، حسن المفتي ، محمد شهبون وغيرهم... يكفيك سيدي تلك الروح من الدعابة مع الجميع ، التي جعلت منك طفلا لايشيخ... وشمسا صغيرة مخبأة في ثنايا مشيتك ، أنت الذي حملت بلادا وغيما بروحانية مكثفة... أتذكرك ذات صباح صيفي ونحن نحتسي الشاي بمقهى « الروبيو» بساحة «وطاء حمام» الأثيرة لديك ،مستظلا بصمتك المحتمل وأنت تحكي عن سر هذا الفضاء الكوني الصغير ، تحفظ عنه تراثا هائلا ، مثلما تحفظ من الحكايا الغزيرة عن مدينتك/ شفشاون التي رسمت خطوط حياتك والتي أرختها ضمن كتابك الجميل:( ذاكرة مدينة شفشاون: وقائع ومرويات. 2008 )، أنت الذي لم تجامل يوما ولم تكن أهلا للنفاق ، ولم تسع إلى مجد مبتذل ، لأنه ببساطة كنت مجد نفسك... كم كانت آهلة شخصيتك بالأريحية ، يا من راكمت أحزان الحياة وتلبست النسيان باستثناءات نادرة. ترى ما الذي يتبقى من رحيق الأمكنة إذا فقدنا بعض رئاتها؟ سنظل نتلمس ظلك الوارف بيننا بكثافته وينابيعه ورؤاه . وعزاؤنا في مصابك ، هو ضرورة التفكير من قبل محبيك ومجايليك وأصدقائك ، بل ومسؤولي المدينة في إخراج ما جادت به قريحتك وشرفات بوحك... أبو عسل لن أقول وداعا ، لأنك الحاضر في غيابك.