افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 17 أكتوبر 2024 طاقة الخَيال عنْد مْسَلَّكْ لِيّامْ، أبْعد في رحلاتها مِنْ أنْ تُحَدَّ بأمْيال، لذلك تجدهُ في غالب التّفكير، ساهماً حالماً لا يَسمَعُ من الكلمات إلا آخرها، في غيبوبة محْمولا على أكْتافِ النّمْل كما لو يمْتطي ظهور الأفيال، لَمْ يكن يُخالط النّاس أو يُخالِطوه لِغرابته في الشّكل والهِنْدام، فَقُمصانٌ مُشجّرةٌ وسراويل تكنسُ الطُّرقات وأحذية معْقُوفة، كان لا يَحْفَلُ بما ينْتَظِمُ الآخرين في الحياةِ الاجتماعية، يراهم أشبه بشرائح تين مُجفّف في خيْطٍ من الدُّوم المَبْروم، يعْشق وهو على حافّة البحر اسْتِباق النِّهاياتِ بالغرق مع الشمس في مضجعها الأخير، ولا تهمُّهُ الغُربة في المكان الواحِد الآهِل ولو بلغ التمزُّقُ عن مُحيطه الأحشاء، دائما في ذهولٍ خارج الصَّفِّ، إلى أن جاء يوْمٌ واستردَّ الوعْي كأيِّ جنين انزلق للتّوِّ من الرحم، وها هو يصرخ مُرتطماً بجدار الحياة: يا إلهي إلى متى سأبقى في كلامي مُهَمْهِماً وفي تفكيري حالماً، يا لهذه اللغة العصِيّة التي لا يفهمها أحدٌ سواي، يا لهذا العالم الذي حَشرْتُ نفسي في قمْقُمه بعيدا عن الواقع، رُبّما يُوجد مثلي كثيرون، ولكنهم إمّا يُصَنَّفون حسب أكذوبة الطِّب النفْسي، في عِدادِ الفُصاميِّين، أو يرحمهم المُجتمع ببعض الإعتراف فيعتبرهم شُعراءً، ولم يَكَدْ مْسَلَّكْ لِيّامْ يهْجِس بالفكرة الأخيرة حتى نطَّ من مكانه وتمطّى كالكرة، ثم مدَّ يده للسماء كما لو يريد أنْ يتلقَّفَ تفاحة نيوتن، ولكنها تُفّاحة من فاكهة مُغايِرة، تجْعل من يقْضِمها يفقد الجاذبية عوض أن يكتشفها، لماذا تلقَّفْتَ يا مْسَلَّكْ لِيّامْ تُفّاحة الكتابة، أوَ ليْس فاكهة اللذة والمعرفة، ما طرد آدم من الجنّة، ها أنت اليوم بسببها تخْتبر الجحيم في الفردوس السُّفلي للحياة، وتصيح فرِحاً مأخوذا بالسكين: انظُروا إلى هشَاشَتي في ضُعْفها المُخْزي، تنقلِبُ إلى دِرْعٍ قوي، ولولا ذلك لم يقُل المجْنون هولدرلين: ما تبقّى يُؤسِّسه الشُّعراء ! انتبهَ مْسَلَّكْ لِيّامْ لمَلَكة الخيال التي تسْتلِبُه بِطيْشِها الأرْعَن، وقال إنّه يُمْكن الإسْتفادة مِمّا تقترحه من أوهام للناس، يكفي أن أحوِّلها إلى كلمات لا تخلو من دهشة، وها أنَا أجد مكانا يسع اختلافي أو نُشوزي في هذا العالم، لمْ يُضيِّعْ مْسَلَّكْ لِيّامْ الوقت، فاعتلى جليّاً كل أحْصِنة الكلمة الجامحة، ولَوّى بقوّةٍ قرون ثيرانها الجريحة في الساحة الكبرى لِجمْهرة المُعْجم، وما زال يُطوِّعها بما يتلاءم مع شَطْح خيالاته الأوْسع من سِرواله، ولكنّها لا تني تُطوِّحه كمنْ يريد التخلُّص من جِنّيٍ يتلبَّسه بالمقْلوب، حتى رأى أول قصيدة من حُرِّ قلمه أو ألمه، منشورةً في جريدة مع صورته الساخرة من العالم، ثم أخرى في مجلات بالمشرق والمغرب، ولم يبْق للكاتب، من فرط ما جَنّحهُ الزّهْوُ الكاذب، إلا أنْ يقول للشمس، اهبطي لأسخِّن على شَرف الفقْر المُدْقع بَرّاد شاي نُحاسي، أو أطْلعْ ! هكذا انجلتْ الكآبة بغشاوتها عن عَيْنَيْ مْسَلَّكْ لِيّامْ، واتَّسَعتْ جغرافيا الكتابة الأشبه في مفاتنها بتضاريس أنثى، فاسْتبدل الأقدام ليركض مَحْمُولا على أجنحة الشغف بالأقلام، خصوصاً حين قال رئيس الجريدة، ستُؤْجَرُ على قدْرِ ما تَنْشُر، فكان يتّخذُ من الليل دواةً يُسَوِّدُ بحبرها أوراق النهار، يا إلهي أين خيالاتي وما لها يوماً عن يومٍ في ضُمور كالورم، اللَّعْنة، لم أكُن أعلم أنه يمكن الزّجَّ حتى بالكتابة في مثل هذا الكدْحٍ الشّاق، وإلا فلن تتحصّلَ على مبْلغٍ مُحْترم ! كتب مْسَلَّكْ لِيّامْ المقالة والدراسة الأدبية وأدمن الترجمة سنوات، كتب رسائل الحُبِّ يُضمِّدها جريحاً في الأوراق، حذِراً من أن تُصاب مشاعره بالإملاق، فما أفْظَع أن تحيا بدون خيال، وما أٌقسى أن يفْقد المرء في النَّوم واليقظة قابِليّة الحُلْم، أليس من رحِم هذا الخيال تأتي الفكرة كما بالسّماد تنبتُ الزهرة، شعَرَ مْسَلَّكْ لِيّامْ بالفزع الأكبر، تحسّس رأسَه فوجدها من شدّةِ الصّلابة على أهبة أن تُخْرِج قرنين، أيْن المَاء الذي كان يتناثر من خصلاتي، هذا جزاء من يريد أن يُحوّل الكَلِم الذي لا يُباعُ ولا يُشترى، إلى دراهِم، أنا مَنْ كتب كل شيء وأعاد اللُّغة إلى سَرْمدها ليُجرِّب بلاغة المحْو، ودار مع طاحونة الصحافة، وهو يعلم أنّها لا ترْحَم بآلتها المُسنّنة قلوباً ضعيفة كأكياس الخيش، فإمّا أنْ تكون كأيِّ كائن مجازي، بأعْصاب فولاذية قابلة لإعادة تشكيل الأعْطاب النَّفسية دون رحِمْ، أو تنْقلب من كاتب إلى مَكتوبٍ عليه، ولكن مع صورة بالأبْيض والأسْود في رُكْن التّعازي !