الواضح أن قضية ندرة التساقطات المطرية والارتفاع المهول في درجات الحرارة في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط لم تعد تقتصر على مرحلة مؤقتة وعابرة، يمكن المراهنة على تجاوزها، بل أضحى مؤكدا أن الأمر يتعلق بظاهرة مناخية جديدة مستدامة تتطلب مواجهة حقيقية بالنظر إلى الخطورة البالغة التي تكتسيها. فقبل حوالي أربع سنوات من اليوم تنبأ تقرير عالمي أعده 800 من الباحثين المتخصصين وعلماء المناخ، بأن القرن الواحد والعشرين سيكون قاسيا على هذه المنطقة، إذ ستعرف انخفاضا في التساقطات المطرية، وأكد آنذاك بأن هذه المنطقة تصنف ضمن المناطق الأكثر تضررا من التغير المناخي. وهكذا عرفت منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط منذ بضعة سنوات تغيرات مناخية عميقة، تؤشر على خطورة بالغة، عنوانها الرئيسي شح متواصل في التساقطات المطرية وارتفاع درجات الحرارة فوق اليابسة كما في البحار من المغرب العربي إلى إيطاليا ومرورا بالبرتغال وسواحل إسبانيا وجنوب فرنسا وصقلية وسردينيا ومالطا إلى غاية اليونان، حيث أضحت قضية الجفاف تخيم على سماء هذه المساحة الجغرافية الشاسعة. فجنوب أوروبا يعيش سنته الثانية على التوالي من شبه جفاف، بينما يمتد هذا الخصاص في الأمطار بالمغرب لسنته السادسة على التوالي، حيث تراجعت كميات الأمطار بنسبة كبيرة جدا تجاوزت 70 بالمائة عن المعدل المعتاد وتهاوت حقينة السدود إلى ما دون 25 بالمائة من طاقات تخزينها، بينما تواجه منطقة كاتالونيا في إسبانيا أصعب فترة جفاف لم تعرف مثيلا لها طيلة قرن كامل، مما دفع الحكومة الجهوية هناك إلى فرض حالة طوارئ مائية، وتكفي الإشارة في هذا الصدد إلى أن هذه المنطقة التي تمثل العاصمة الاقتصادية والفلاحية لشبه الجزيرة الإيبيرية يواجه سكانها خطر عطش حقيقي في الصيف القادم، مما أجبر مسؤوليها على الاستعانة بجلب مياه الشرب من مناطق أخرى. وأكد تقرير آخر هذه المخاوف والقلاقل، ويتعلق الأمر هذه المرة بتقرير صادر عن المركز المشترك للبحث التابع للجنة الأوروبية، نشر في الأسبوع الثالث من شهر فبراير (شباط) الماضي، أكد أنه بالاعتماد على مؤشرات المرصد الأوروبي للجفاف والتي تم استخلاصها من استغلال صور التقطت بواسطة الأقمار الاصطناعية، تأكد وجود حالة طوارئ بالنسبة لجنوب إسبانيا وجنوب فرنسا والغالبية الساحقة من التراب الإيطالي ومالطا وقبرص وجزء من رومانيا واليونان وتركيا، وبصفة خاصة شرق البحر الأبيض المتوسط، ويؤكد أن الخطورة تزداد بشدة بالنسبة لمنطقة المغرب العربي. وما يزيد من حجم هذه المخاوف أن سنة 2024 لم تختلف في بداياتها عما عرفته المنطقة من خصاص في التساقطات المطرية خلال السنوات القليلة الماضية، إن لم تكن قلّت عما كانت عليه سابقا في بعض مناطق حوض البحر الأبيض المتوسط لتستمر الظروف الصعبة والقاسية التي تواجهها هذه المنطقة التي كانت إلى عهد قريب معروفة بوفرة الأمطار الغزيرة. طبعا، حينما يتم الإقرار بأن الأمر لم يعد يقتصر على مرحلة عابرة، وأن ارتفاع درجات الحرارة وتقلص التساقطات المطرية أضحى ظاهرة مستدامة مرتبطة ببنية المناخ في المنطقة برمتها، فإن ذلك يزيح الستار عن تداعيات خطيرة تهدد مستقبل الوجود البشري والحيواني في هذه المنطقة. لأن ذلك يعني تراجعا كبيرا متواصلا في مخزون المياه الجوفية مما يقلص تدريجيا وبسرعة كبيرة معدل رطوبة الأرض، الأمر الذي ستترتب عنه تأثيرات كبيرة وقوية على الغطاء النباتي وعلى المحاصيل الفلاحية، وبالتالي تقلص موارد العيش الطبيعية. كما أن حالة الطوارئ المائية في هذه المنطقة ستفرض اتخاذ تدابير احترازية مشددة ستكون لها تأثيرات كبيرة ومباشرة على السياحة والنقل وغيرهما، مما سيعني تراجعا كبيرا في الموارد المالية وإلغاء الملايين من مناصب الشغل. لسنا هنا بصدد الحديث عن عوامل أخرى تزيد الأوضاع تعقيدا وخطورة من قبيل الإجهاد المائي الذي يصل حد استنزاف الموارد المائية في المنطقة، بسبب الأنشطة التجارية والصناعية والفلاحية، وبسبب التهور البشري الذي يتمثل في التعامل مع الماء كما كان عليه الحال قبل عشرات السنين في سلوك بشري تدميري، لأن هذا عنوان آخر عريض لأزمة الماء في المنطقة. وتزداد المخاوف مما هو آت بسبب غياب الحلول العملية والفعالة لهذه الأزمة، فالاستمطار لم يحقق النتائج المأمولة، وتوقعات السنوات القليلة المقبلة مقلقة، ولعل هذا ما يفسر التجاء بعض الدول إلى حلول بديلة، من قبيل بناء محطات تحلية مياه البحر لضمان الماء الشروب على الأقل وتشييد الطرق السيارة للماء لنقل المياه من منطقة إلى أخرى، وفرض قيود مشددة على استعمالات الماء، لكنها تبقى حلولا محدودة الفعالية لأنها تركز على ضمان الحد الأدنى من استعمالات المياه ليس أكثر من ذلك. إنها فعلا معطيات خطيرة تخيم على الأوضاع في منطقة البحر الأبيض المتوسط.