مقاربة تحليلية في تصاميم التنمية والتكتلات القروية بالمغرب إن القول بوجود الإنسان في الزمن عموما، ومنه الزمن القروي، إقرار بالوجود في نسق من القيم التي تحكمه، حتى إذا ولج زمنا آخر لم يكن ولوجا من مجرد إطار يحتوي وجوده، بل إلى نسق قيمي مخالف تماما، يصبح هو أساس تعريفه وتحديده. من ثم فالزمن القروي تعبير عن الهوية العمرانية المجالية التي لا تنفصل عن هوية العمران أو الاجتماع البشري، إذ وفقا لجان سبورك (Jan SPURK)، فكما في فن العمارة، نحن أمام ما يمنح الاستقرار والدوام للمجتمع ولهيكليته. وذلك ما يَفترض ما لمقتضيات البنية الفوقية في المجتمعات المعاصرة، والتي يشكلها النظام الاجتماعي مؤلفا من الإنسان والأسرة والثقافة، من دور حيوي في اختيار هوية عمرانية دون أخرى.
والحال أن الزمن القروي دافع لاعتماد تخطيط عمراني للمجالات القروية، تخطيطا حيا غير جامد ومسكوك، ينفعل بالاجتماع البشري ويمارس فعله عليه، وذلك بما يجعل موضوع تصاميم التنمية ضمن نطاق أشمل للسياسات العمرانية ترجمة للخصوصيات القيمية والواقعية المحلية، وفقا ليقظة ترابية تستند على الوجدان الجمعي القروي الذي يؤشر على الهوية الترابية السعيدة ، باعتبارها هوية جماعية جامعة متماسكة كفيلة بحصر الهويات العمرانية المفتتة المثخنة بالتفاوتات مجاليا والتناقضات اجتماعيا، بما من شأنه التأسيس للتمثلات العمرانية المنصفة والعادلة، والتي تشكل الرغبة الانتمائية المتصالحة مع المجال والمتجذرة فيه وغير القابلة للطمس أو الترويض. تلكم الرغبة الكفيلة بتجاوز لحظات الاختلاف والاختلال في أنماط العيش، ومن ثم في التمثلات الهوياتية التي تؤثر حتما في التماسك الاجتماعي وتعيد النظر في مقولة النَّحن. هذا وتتحدد إشكالية مقالنا في أهمية الدور الذي تلعبه السياسة العمرانية من منطلق مراجعة وتفعيل أصولها القانونية / الاجتماعية / التنموية في التأسيس لمنظومة متجددة للتخطيط العمراني، وذلك بما يدفع باتجاه تثمين موقع المكون القروي في التنمية المجالية. وخصوصية هذه الإشكالية تتطلب منا أمرين في تقديرنا. الأول: استيعاب النظام القانوني للسياسة العمرانية القروية، استيعابا تجسده الحاجة للتكامل الترابي، لتحقيق التنمية المجالية القروية من التشخيص الحاوي شارِطا الفاعلية العمرانية: مراعاة الخصوصية المحلية المجالية شرطا للانخراط في الدينامية الترابية الإقليمية أو الجهوية أو الوطنية. الثاني: القدرة على التوفيق بين المقاربة التقنية والعلمية في صياغة سياسة عمرانية تقدم الأجوبة العلمية المناسبة للظرفية الترابية، ودعمها بالنموذج العملي القائم على الإنصاف المجالي الهادف إلى تقليص الفوارق المجالية والانتقال من المجالات القروية الهشة إلى المجالات القروية الوظيفية. من ثم تتحدد فرضية مقالنا في القول بالزمن القروي بيانا قيميا للهوية العمرانية القروية الذي يتحدد به مضمون الهوية والانتماء للمجال، وأصالة المرجعية الحاكمة لأي تخطيط عمراني تنموي. وهو ما يؤكد أن فاعلية أي تخطيط عمراني للمجالات القروية إنما تتوقف على مدى إدراك وتفعيل حصيلة مدركاتها الجماعية وقيمها الاجتماعية. كما يؤكد أن اعتماد المقاربة التقنية وإن كان مهما في فاعلية أي سياسة عمرانية قروية، إلا أن هذا الاعتبار الضروري لابد وأن يتماشى مع الاعتبارات القيمية والاجتماعية بوصفها الدافع لتنمية اجتماعية تصنع طرائق وأنماط العيش المشترك. موقع السياسة العمرانية من التنمية القروية يشغل العالم القروي موقعا أساسيا من البنية الترابية والديمغرافية والاقتصادية للمغرب، فهو يمثل 90 % من مساحة المغرب، ويضم أكثر من 13 مليون نسمة) 40 في المائة من ساكنة البلاد(، ويشغل وزنا كبيرا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي بحوالي 20 % من الناتج الداخلي الإجمالي، وذلك على الرغم من التمدن السريع الذي يعرفه المغرب خلال السنوات الأخيرة. ووفقا لهذه الأهمية، يشكل العالم القروي انشغالا سياسيا، وذلك على نحو أن كل طموح سوسيو-اقتصادي مستدام منشود لا يتحقق دون إدراج العالم القروي في الدينامية الوطنية، خاصة وأنه يضم 85 في المائة من الجماعات (أي 282 1 جماعة قروية من بين 503 1)، وذلك بتعداد يناهز 000 33 دوار و168 مركزا قرويا، فضلا على أن 13 في المائة من الجماعات القروية تتوفر على مركز حضري. ومهما كانت المؤهلات التي يتمتع بها العالم القروي، فإن الحاجيات تفوق الإمكانات المرصودة، كما تفوق سرعة تكاثرها وتيرة التدبير البعدي الذي يطبع عمل مؤسسات الدولة، إذ وعلى الرغم من الجهود المبذولة من طرف مختلف الفاعلين المتدخلين، فإن وضعية العالم القروي جد مقلقة، ولا سيما في مجال الولوج إلى الخدمات الاجتماعية، وخلق فرص الشغل في الوسط القروي، فضلا عن تنامي الهجرة القروية التي أدت إلى تحولات ديمغرافية مقلقة بفعل استنزاف الأراضي ذات الإنتاجية الفلاحية المهمة بسبب التوسع العمراني المتزايد وتوسع المدن والسعي في البحث عن الأمن الاقتصادي للأفراد. ومن ثم فإن واقع الهشاشة والعزلة والخصاص على مستوى التجهيزات والخدمات الأساسية واقع لا يرتفع. والحال أن هذا الواقع يطرح سؤال الجدوى من الجهود المتراكمة المبذولة، كما يطرح السؤال حول ضمانات النجاعة الخاصة بالسياسات العمومية المتبعة، وبخاصة في تدبير التعمير بالوسط القروي، وفقا لرؤية تنموية مندمجة ودامجة، تنصف المجالات القروية، كما تعدل مجاليا بينها وبين المجالات الحضرية، وذلك باعتبار وثائق التعمير في حال تصاميم التنمية تتجاوز كونها أداة للترخيص والتحكم في التوسع العمراني إلى مشروع حامل للتنمية وواعد بهوية عمرانية مجالية تحدد أنماط العيش الموعودة المنشودة، فضلا عن كونها تجلٍّ واضح للعلاقة الجدلية بين تنمية المجال الترابي وهاجس مراقبته وضبطه. على هذا النحو، شكل التعمير أحد الوسائل المعتمدة لتحقيق التنمية بالعالم القروي، وذلك على الرغم مما يعتريه من الإشكالات المتعلقة أساسا بأنه سياسة مواكبة لا مؤطرة للتحولات المجتمعية الغالبة، والتي فرضت نفسها رغما عن كل المخططات المعتمدة ولا زالت، وذلك في مقابل الاتجاه نحو المعالجة البعدية إلا فيما ندر من العمليات العمرانية، ولا أدل على ذلك-وإن على سبيل المثال-مما يتعلق بواقع الإهمال للمجالات القروية؛ وترك الحبل على غاربه بخصوص المجالات الضاحوية التي تفرض نفسها كأمر واقع، لا هو بالحضري الأصيل ولا بالقروي المندمج؛ فضلا عن مساطر الرفض المغلقة غير القابلة للاستئناف في مقابل الدينامية الاجتماعية النشيطة. هكذا أصبح النمو العمراني في مجمله خارج المنظومة المحدثة لتأطير العمران، فهو إما سليل العشوائيات أو وليد الاستثناءات، في مقابل ما يمكن اللجوء إليه في القانون 90.12 من تفعيل مضمون المادة 26، والمادة 28 في حال الاستعمال المؤقت للأراضي في غرض غير الغرض المنصوص عليه في تصميم التهيئة، وكذا المادة 20 في حالة استرداد ملاك الأراضي حق التصرف في أراضيهم فور انتهاء الآثار المترتبة على إعلان المنفعة العامة وفق المسطرة العادية دون حاجة اللجوء إلى مسطرة الاستثناء، إضافة إلى الفقرة الأخيرة من المادة 19 انسجاما مع المقتضيات الواردة في البنود 1 و9 و11 من نفس المادة التي تشكل مضمونا لأغلب طلبات الاستفادة من الاستثناء، وذلك بدلا من ترسيم الاستثناء بنص قانوني أدنى يتعلق بالدوريات المتتالية في هذا الشأن، وكذا بنص قانوني مماثل في الدرجة والمتعلق بالقانون 74.18 الخاص بإصلاح المراكز الجهوية للاستثمار، وذلك بما يعضد خلاصات دراسة المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي المهمة والموسومة بالتأثيرات المترتبة عن الاستثناءات في مجال التعمير.
الهندسة القانونية للعمران القروي إن سياسة التعمير فعل متعدد الأبعاد، وذلك باعتبارها ميدانا أفقيا يلامس المجالات المختلفة، ومنها القانونية، والتي تعنى بتنظيم العمران القروي وتدبيره، وإن كانت تشكل عقبة في طريق مصالحة المواطن مع محيطه العمراني، مما يلزم-وفقا للدوريات الوزارية المتواترة ومقتضياتها القانونية المتوترة-من السعي لتحيين منظومة التعمير القانونية، وتحريرها من البساطة على مستوى المضمون والجمود على مستوى الأهداف والقصور على مستوى الوسائل والأدوات، وذلك حتى تواكب المحيط الداخلي المتطور والخارجي المتجدد. ويتحدد الإطار القانوني للتعمير في العالم القروي بداية في الظهير الخاص بتوسيع نطاق العمارات القروية، ولا سيما الجزء الثاني منه (المواد 2 إلى 5)، والذي جاء في سياق الوعي بأهمية تهيئة المجال الترابي ذو الصبغة القروية، ذلك أن الإنتاج الحقوقي الحمائي في المجال العمراني لا سيما ظهير 30 يوليوز 1952 ركز بالأساس على تنظيم المناطق الحضرية في مقابل تجاهل مطلق للعالم القروي، مما أدى إلى ضعف المراقبة والتوجيه لتوسع العمران القروي. كما عني المنشور الوزيري المشترك بتاريخ 17 نونبر 1980، والخاص بمسطرة إعداد تصميم تنمية التكتلات العمرانية القروية، بتحديد وتفسير المقتضيات التشريعية والتنظيمية المتعلقة بإعداد تصميم النمو ومسطرة الموافقة والمصادقة عليه، وذلك على غرار الدورية رقم 005/م ت ه م/م ق بتاريخ 17 يناير 1994 المتعلقة بإعداد تصميم التهيئة ومسطرة الموافقة والمصادقة عليه. وبخصوص المنشور الوزيري بتاريخ 29 مارس 1973، فقد عني بالتحديد والتوضيح لمعايير وضع تصاميم التنمية أو ما يسمى بنطاق التطبيق، وذلك وفقا لما ورد مما أسلفنا ذكره إجمالا بالمنشور الوزيري المشترك لسنة 1980، إضافة إلى تعرضها إلى مسطرة إعداد ذات التصاميم، مع الإشارة إلى بعض المعايير الخاصة بتهيئة المجال، وذلك كأن يتم التجنب ما أمكن-في حالة التجمعات القروية الواقعة على الطرق ذات الأهمية-للتأهيل العمراني لهذه التجمعات من كلا جانبي هذه الطرق. أما الدورية بتاريخ 15 يونيو 1995، فتعد من التشريع المطبق على المراكز القروية المتوفرة على تصميم تنمية مصادق عليه، والتي أكدت بمزيد من التوضيح على مسطرة إعداد ذات النوع من التصاميم، في إشارة إلى مقتضيات الفقرة الأولى من المادة 18 من قانون 90.12 المتعلق بالتعمير، والتي تقضي بأن يوضع تصميم التهيئة للمجموعة العمرانية -بما فيها القروية- التي يشملها مخطط توجيه التهيئة العمرانية، وذلك في تنفيذ لمضمون المادتين 11 و4 من نفس القانون، والمتعلقتين بواجب التقيُّد بأحكام مخططات توجيه التهيئة العمرانية في حالة تصاميم التنطيق والتهيئة والتنمية. كما يمكن الاستئناس بمضامين المراسلة الوزارية لمديرية التعمير والموجهة للوكالة الحضرية لأكادير، المهمة في بابها المتعلق بمسطرة إعداد تصميم تنمية التكتلات العمرانية القروية، وذلك لاعتبار ما أوردته على وجه التركيز والإجمال من مضامين ظهير سنة 1960 والمنشور الوزاري لسنة 1980، وعلى وجه من التفصيل لمراحل إعداد تصاميم التنمية. العالم القروي مختبرا تنمويا تنبثق أهمية تصاميم التنمية باعتبارها وثيقة تعميرية في كونها لا تقتصر على تحديد الأراضي ونوعية تخصيصها لمختلف الاستعمالات فحسب، بل تؤثر في مسار التنمية الاقتصادية، كونها ترسم معالم المجال وتلبي الحاجة من التجهيزات الأساسية والبنيات التحتية ومناطق الأنشطة الإنتاجية، لتعكس عموما تلك العلاقة المتبادلة بين وثائق التعمير والتنمية. ولتحقيق هذا الغرض، وعلى غرار تصاميم التهيئة من خلال المواد 28 و29 و34 من قانون 12/90 المتعلق بالتعمير، ولاعتبار النص القاضي بالموافقة على تصميم التنمية بمثابة إعلان عن المنفعة العامة، فقد نهج المشرع المغربي آلية نزع الملكية من أجل المنفعة العامة لضمان إنجاز مقتضيات تصاميم التنمية من تجهيزات وبنيات تحتية وفضاءات عامة من جهة، ومحاربة التباينات بين المجالات من حيث الفارق الممكن فيما يخص توفر التجهيزات، وذلك من أجل تجاوز إنتاج مجالات عمرانية تفتقر لشروط الاندماج والتكامل المجالي. وكما تلجأ الإدارة إلى نزع الملكية كأداة لتحقيق التنمية، فإن إقرار مسطرة الاستثناء في مجال التعمير يعد تعبيرا عن إرادة استغلال فرص الاستثمار من خلال إعمال المرونة في دراسة المشاريع الاستثمارية، وذلك في سياق الحاجة إلى تدبير عمراني قائم على التكييف، في ظل ما يقابله من افتقار وثائق التعمير للمرونة واتسامها بالجمود أمام الضرورات الاقتصادية والاجتماعية الدائبة الحركة والتطور، وعجزها عن إدماج الحاجيات التنموية المستجدة الخاصة بالساكنة والمستثمرين، بما يستوجب مرونة أكبر وتسريعا في وثيرة دراسة الملفات المعروضة على أنظار الإدارة. وإلى جانب ما يلزم من تقدير ضرورة المصلحة العامة والتعويض عن نزع الملكية الذي يأتي استثناء على حق الملكية وفقا للفصل 35 من الدستور المغربي، فإنه إلى جانب ما أسلفنا ذكره من المقتضيات القانونية الممكن تفعيلها إلى جانب اللجوء إلى إعمال الاستثناء، يظل التدبير العمراني القائم على مسطرة الاستثناء استثناء وليس قاعدة، خاصة أمام شروط الاستثناء المنصوص عليها بتحديد ودقة، فضلا عن طابعه المؤقت والاستثنائي، إضافة إلى سابقة تجميد أعمال لجان منح الاستثناء، وذلك لكون الإفراط في اعتماد مسطرة الاستثناء يرهن التعمير أمام اختلالات يستحيل جبر أضرارها، خاصة في واقع أن 74% من طلبات الحصول على رخص الاستثناء تتعلق بأراض مغطاة بوثائق التعمير، مما ينجم عنه عددا من الآثار السلبية التي يتعلق بعضها بالمجال العمراني، وذلك من خلال الكثافة السكانية المفرطة في القطاعات الحضرية؛ المساس بالتوجهات الكبرى لوثائق التعمير؛ ضعف القوة القانونية لوثائق التعمير؛ إلغاء الفضاءات الخضراء المتضمنة في وثائق التعمير؛ التأثير على مبدأ المساواة في التنافسية الاقتصادية بين الفاعلين الاقتصاديين... وإلى جانب الترابط اللازم بين وثائق التعمير وفقا لمبدأ التراتبية القانونية التي تتوخى تلافي التناقض الممكن بين توجهات ومقتضيات هذه الوثائق، من خلال المراعاة في إعداد كل وثيقة تعميرية للوثيقة الأسمى تطبيقا لمقتضيات المادة 11 من القانون 12/90 المتعلق بالتعمير، فإن ذلك يطرح التساؤل حول طبيعة هذه العلاقة من حيث الدور التنموي لتصاميم التنمية والتكتلات العمرانية القروية في تحقيق اندماج فاعل للنطاق المكاني المشمول بها في الدينامية الترابية الإقليمية أو الجهوية، ومستقل يراعي الخصوصيات المحلية المجالية شرطا لهذا الانخراط. إن استحضار طبيعة هذه العلاقة يندرج عموما في إطار تطور أنماط التخطيط الحضري من مجرد ثنائية التعمير/التنطيق إلى تخطيط عمراني استراتيجي توقعي وتشاركي، ينسجم مع نمط المشروع الحضري (Projet urbain) الذي أسلفنا ذكره، وذلك من واقع ما تحدده وثائق التعمير الأسمى من توجهات تنموية كبرى تجعل المجالات القروية المشمولة بتصاميم التنمية معنية بالتفاعل المجالي (Interaction spatiale) في أفق التكامل المجالي الوظيفي باعتباره تكاملا اجتماعيا واقتصاديا. ولعل ذلك ما يجد سنده في ضرورة أن يحتل العالم القروي مكانة متميزة في جهة الغد، وذلك باعتبار الجهة الفضاء لتحقيق التكامل والاندماج الترابي، من خلال مركزية التصاميم الجهوية لإعداد التراب كآلية رافعة للتنمية الوطنية. وهو ما لا يتأتى إلا بإعداد اختيارات وتوجهات التصاميم الجهوية لإعداد التراب وفقا لمخططات جهوية للتنمية القروية ذات الأثر التنموي على مختلف المجالات، بخاصة تلك البعيدة عن مراكز التنمية، والتي تمثل غالبا نطاقا مكانيا لتصاميم التنمية. وهو ما يشكل في العمق إرادة الانتقال إلى أنظمة ترابية متكاملة ومندمجة، تقوم على تشييد وتفعيل الروابط بين المجالات الترابية، من خلال مواكبة هذه المجالات بنمط من التخطيط العمراني المتجدد والمرن والمحفز للتنمية الاجتماعية الشاملة، التي تقطع مع الرؤية النفعية والمجزأة، التي يصير فيها المجال مناطق وظيفية نافعة أو غير نافعة، وذلك في أفق اندماج متفرد ومستقل يعزز تنافسية المجالات، وفاعل متكامل يُغَلِّب التوازن والتضامن المجالي. إنها اندماجية ترابية وطنية شاملة تحد من التفاوتات المجالية وتكرس العدالة المجالية، وذلك حين تجعل العمران في خدمة الإنسان وكفاية حاجياته، من خلال ما يمكن تسميته بالولوجية المنصفة، حين يمتد أثر هذه الولوجية إلى كل مواطن في عيشه الكريم.
العالم القروي مختبرا اجتماعيا لا تقتصر التنمية القروية المفترضة من السياسات العمرانية مجسدة في تصاميم التنمية والتكتلات القروية على الإبقاء على المواطن قيد الحياة، ليكافح من أجل البقاء، وإنما من أجل استيعابه اجتماعيا وتهيئته للقيام بوظيفته في هذه الحياة. لذا فالقول بالعالم القروي مختبرا اجتماعيا لا يتعلق بمقاربة الرابط الاجتماعي باعتباره نظاما للتفاعلات الاجتماعية وما أصبحت تعكسه من " الوحدة وسط الجموع والقلب الحزين بين الضلوع "، وذلك بخاصة أمام غياب التداول حول الرابط الاجتماعي في النقاش العمومي والسياسي، واقتصار مصدر القلق في السياسات العمرانية على بناء السكن والقضاء على أحياء الصفيح وما لذلك من الآثار الاجتماعية، إضافة إلى المخلفات الاجتماعية لحالة الإدماج القسري بين الحضري والقروي، التي يسميها روبرت إزرا بارك بعملية الانصهار بين ثقافة التقاليد والأعراف في القرية والثقافة الحضرية التي تتميز بسيادة الفردانية والقانون الوضعي. إنما يتعلق قولنا بالعالم القروي مختبرا اجتماعيا، من حيث صلة التخطيط العمراني-في حالة تصاميم التنمية-بالمجال القروي، باعتبارها صلة تتجاوز مجرد سياقاتها التقنية الإجرائية، وإن على أهميتها المعتبرة، إلى اعتماد تخطيط عمراني يؤسس لنمط من العيش القروي، وما يجسده ذلك من القيم والأعراف، والتي تشكل وحدها الدليل على قوة الانتماء للمجال القروي، ومؤشرا على تعمير أصيل غير مستعار، قائم على استجابة آليات إنتاج المجال للإشكاليات الحقيقية، وانسجام أساليب ذات الإنتاج للمجال والمدركات والقيم الخاصة بالعالم القروي. نريد القول أن التخطيط العمراني لواقع الاجتماع القروي لا ينحصر في مجرد الترجمة التقنية لوزنه الديمغرافي أو بنية اليد العاملة أو حجم الإنتاج الزراعي، فإلى جانب هذه العوامل، يتطلب التخطيط لقرانا ملاءمة حكامتها للتحولات السوسيولوجية والخصوصيات الثقافية التي تخص نمط العيش والسلوك، والتي أصبحت مسرحا للصور النمطية إزاء الساكنة القروية، نتيجة للتفاوتات المجالية وما كرسته من مظاهر الاقصاء والتمييز الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في حق هذه الساكنة. والأدهى أن ذلك يتم بشأن مجال يشكل في العمق مرآة للاجتماع المغربي برمته، لاعتبار ساكنة المغرب على غرار ساكنة البلدان النامية قروية أكثر منها حضرية، إضافة إلى الساكنة القروية المقيمة داخل المدن وبالضواحي الحضرية بفعل تنامي ظاهرة الهجرة القروية -التي تستحق أن يفرد لها بحث مستقل- فضلا عن القيمة النسبية التي تقر بالارتفاع الديمغرافي للأسر في الوسط القروي، والتي تؤثل لسوسيولوجيا قروية صاعدة تعبر عن حالة من الخوف السائل، يُجَرد الوافد الجديد من مجاله الطارد، من كل شبكات التضامن التي اعتاد عليها، عبر ما أسلفنا ذكره من الاندماج القسري في المدينة وضواحيها، وما يترجمه ذلك من الوجود داخل شكل الآخر ونمط سكنه، مع ما تخلفه من إعاقة ناعمة للمجال القروي وناسه، واغتيال بارد تمارسه هندسة تتقبَّى لَبوس الموضوعية المزيفة وهي تميز في المجال بين النافع وغير النافع. وفي سياق أخص يتعلق بغلبة المعالجة الآنية على التخطيط العمراني عند وضع تصاميم التنمية كما باقي وثائق التعمير، نجد أنفسنا أمام مضمون محدود وجامد لهذه الوثائق، مضمون يعيد إنتاج نفسه بشكل لا يستوعب الواقع الاجتماعي بله أن يؤطره ويوجهه، فتصبح عمليات التخطيط العمراني تكريسا للأمر الواقع وشرعنة للحاضر دونا عن تفعيل التعمير الاستباقي الذي يصير في خبر كان، وبما يكرس -في ظل بطيء مساطر الإعداد- تقادم التوقعات العمرانية على مستوى وثائق التعمير وعدم مطابقتها مع الواقع المجالي ومتطلبات التنمية التي تتعارض مع المنحنى المتدني لنسبة إنجاز التجهيزات والمرافق العامة المبرمجة في تصاميم التنمية كما باقي وثائق التعمير. ولا شك أن تخطيطا من هذا القبيل يهم تصاميم التنمية، كما باقي وثائق التعمير، له تداعياته الاجتماعية الماثلة في خلق ثقافة عمرانية لا تبتكر تصورا ولا تفتح آفاقا، إلا فيما ندر من الحالات التي تنشد التفعيل وتطلب التطبيق، مع ما يصقل هذه الثقافة من ممارسات تجنح إلى التصرف المطلق في المجال، وذلك من واقع ما أسلفنا ذكره من اعتماد مساطر الاستثناء قاعدة خارج المسالك القانونية والتنظيمية المعدة لاستيعاب التطور العمراني وتوجيهه وتهذيب مضمونه، إضافة إلى عدم إمكانية الترافع أو الاستئناف أو التحكيم بشأن ملاحظات اللجان التقنية، وذلك في واقع الملاحظات الناجمة عنها التي لا تستند كلها للنصوص القانونية والتنظيمية ذات الصلة. ينضاف إلى ذلك غلبة الطابع التقني في التخطيط العمراني الذي وإن تحققت فيه عقلانية التخطيط ونجاعة التنفيذ، فإن مدخلاته التقنية تظل أبعد ما يكون عن المقاربة الاجتماعية / الحقوقية للمسألة العمرانية القائمة على فكرة الحقوق والواجبات بدلا من منطق الغلبة والانتصار. كما أن مخرجاته التنموية عامة، والمجالية خاصة، لا تتأسس بالتبع على ذات المقاربة الحقوقية، مما يجعلها تنمية معاقة اجتماعيا، لا تحفظ ذاكرة جماعية ولا توطد سلما اجتماعيا ولا تضمن استدامة للتطور الحضري، وذلك بما تنتجه من واقع الممانعة الاجتماعية التي تأخذ -على سبيل المثال لا الحصر-صورا من تعاظم البناء العشوائي إلى مرحلة اللاعودة، تُرغم المقاربة التقنية على التسليم بوجوده، والتفاعل معه باعتباره أمرا واقعا، وذلك بإعادة هيكلته قصد إدماجه ضمن المنظومة العمرانية السائدة. وهو ما يفيد أن جهودا تقنية مضنية، مع ما يرافقها من المواكبة القانونية والمؤسساتية والمالية والبشرية، تعصف بها ثقافة الممانعة الاجتماعية، كونها جهودا علاجية، قنواتها تعجيزية تفتقد المرونة، وأسلوبها زجري حازم، في أفق ما يلزم اعتماده من مراعاة المقاربة الاجتماعية / الحقوقية حيث الحق لكلِّ مجتمع في إنتاج مجاله الخاص، وفق اختيار لثقافة عمرانية مواطنة، تستجيب لحاجيات مواطنيها. وبين الاختيار والاضطرار مشهد التناقض القائم بين تعمير قانوني منظم لكنه لا يستجيب في المجمل إلا لقلة من المواطنين، ولا تكاد تفرق بينه -لنقائصه وكثافته-وبين العشوائيات بعد إعادة هيكلتها، وتعمير غير قانوني يعوزه النظام والتجهيز، لكنه يستقطب نسبة عالية من الطلب على السكن وباقي الخدمات. على سبيل الختم إن الأنساق العمرانية عامة والقروية منها كذلك، تعد أنساقا ذات بعد ثقافي بالدرجة الأولى، حيث تحيل إلى الإنسان وثقافته في أخص خصوصياته، ومن ثم فان أنسنة لقرانا من خلال الفعل العمراني -مجسدا في حالة دراستنا في تصاميم التنمية- هي بمنزلة الشرط الحيوي لحصول الحركة في اتجاه قرانا الدامجة، وهي قرى الإنسان؛ ذلك أن القرية / المكان إدراك مرتبط بوعي الإنسان لذاته وللآخرين، لأنه وسط للتفاعل؛ فالمكان يتعذر فهمه من دون حضور البعد الإنساني، لأن مقولة المكان تبقى متعذرة من دون حضور الإنسان الذي يمنح هذا المكان زمنه وحدوده، وهذا يعني أن حضور المكان باختلافاته الممكنة ليس جغرافيا وحسب، بل هو اجتماعي بالأساس. من ثم فالثقافة هي ما يمنح القرية والكينونة الإنسانية فيها مضمونا، وذلك من خلال أولوية الاستثمار في رأس المال غير المادي، بدلا من القول بكفاية الاستثمار في عالم الأشياء، والتي تعد مسارا مضلِّلا يجلب كثيرا من المتاعب للإنسان، والتي تأخذ أشكالا من الجشع العقاري وما ينشئه من الفوضى العمرانية التي تطمس الكينونة الجماعية، وذلك عندما تنتقص الأقلية غير المسؤولة من حرية المجتمع وحرمة الوطن بفعل تقابلات اجتماعية تطمس العالم القروي لصالح المدينة والكينونة الحضرية، كما تطمس إنسانية المفقَّرين لصالح متعة ذوي الحظ من المُغتَنِين؛ تقابلات تحمل من البنى الرمزية ما يرشحها لتكون عنوانا لعاقبة الخسران المبين، وعلاجه في سنة الله التي خلت في الإنسان، باعتبار ما عُرض عليه من الأمانة، وما تستوجب من الاستثمار فيه كمقدمة تجعل منه أمة تبعا لمقدار دوره وفعاليته الحضارية. وكما أن الحالة العمرانية القروية -مجسدة في حالة دراستنا في تصاميم التنمية- حالة إنسانية خاصة تؤلف سلوك الفرد مع بيئته الاجتماعية، فإنها كذلك حالة إنسانية اجتماعية تؤلف الاجتماع القروي الذي يترجم البعد الجمعي كمقدمة بمنزلة الشرط لتخزين الرصيد الجمعي الحافظ للخصوصية القروية وحاجاتها المادية والفكرية والذوقية والجمالية؛ وهو ما يجعل التخطيط لقرانا أداة تحفظ الذاكرة القروية، وتصون حاجاتها المادية والفكرية والذوقية والجمالية، وتضمن استدامة الاتصال بين الأجيال من موقع الثقة بالهوية القروية وفاعليتها التي تفترض التبادل والانفتاح دون انغلاق أو تصلب.