الرباط تحتضن الندوة الدولية اثنتا عشرة سنة على إعلان مراكش في موضوع "تعبئة إفريقية لتعزيز دور الوقاية من الفساد" أكد محمد بشير الراشدي، رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربته، أن الفساد يوجد في مقدمة العوامل التي تقوض أسس سيادة القانون، وتؤدي إلى انتشار مختلف أشكال الشطط في استعمال السلطة، وتكريس الامتيازات والزبونية والمحسوبية؛ بما يساهم في عرقلة التنمية، والحد من المبادرة وكبح الطاقات، مما يدعو إلى التساؤل بشأن مبادئ تكافؤ الفرص والوصول العادل إلى الوسائل والشروط التي تضمن مشاركة أفضل في إنتاج الثروة، والتي تضمن كذلك توزيعًا أكثر عدالة لهذه الأخيرة.
وقال الراشدي، في افتتاح الندوة الدولية "اثنتا عشرة سنة على إعلان مراكش"، التي عقدت صباح اليوم 24 أكتوبر الجاري بالرباط، (قال) إن مختلف التقارير الإقليمية والدولية تثير الانتباه بشكل مستمر إلى الآثار والتداعيات المترتبة عن الفساد وتدعم ذلك بأرقام تبين مدى انتشاره وتفشيه. ومن ذلك على سبيل المثال أن صندوق النقد الدولي يحدد رقم معاملات الفساد فيما بين 1500 و2000 مليار دولار أي ما يعادل 3 إلى 4 في المائة من الناتج الإجمالي العالمي. كما قدر تقرير مؤتمر الأممالمتحدة للتجارة والتنمية حول التنمية الاقتصادية في أفريقيا المنجز سنة 2020 إلى أن أكثر من 88 مليار دولار تخرج من القارة كل عام على شكل تدفقات غير مشروعة لرؤوس الأموال، وهو مستوى يتجاوز حجم المساعدات العمومية للتنمية والاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تتلقاها القارة. وكانت لجنة الأممالمتحدة الاقتصادية لإفريقيا، قد قدرت بدورها قبل عدة سنوات أن الفساد يكبد إفريقيا ما يزيد عن 6 في المائة من الناتج الإجمالي القاري.
وعبر رئيس الهيئة الوطنية، عن عميق أسفه بهذا الواقع المسنود بالأرقام، الذي يتفاقم أكثر في سياق يشهد تطورا للشبكات المالية، والمنظمات والتكنولوجيا التي يتم استغلالها في تعقيد وتطوير ممارسات الفساد وغسل الأموال والجرائم المالية.
وأضاف المتحدث، أن تعقد ظاهرة الفساد وتعدد أشكاله وتمظهراته، يقتضي إحداث تغييرات جذرية في سياسات المجتمعات، من خلال مقاربات شمولية واستراتيجيات متعددة الأبعاد، تضمن الالتقائية والتناسق القويين بين أنشطة مختلف الهيئات والمؤسسات المعنية، وتضمن كذلك إشراك الفاعلين وممثلي القطاع الخاص والمجتمع المدني.
وأعرب في هذا السياق، أن إفريقيا تتحرك اليوم لتعزيز الدينامية على مستوى القارة، بشكل أكثر شمولية للمشاركة في المجهود العالمي بشأن التفكير وتنفيذ ومواكبة العمل من أجل مكافحة الفساد، الذي يهدف إلى تحديد وحصر الرهانات المطروحة، والاستفادة من الأدوات التي من شأنها تمكين بلداننا، فرديا أو جماعيا، من القضاء على الفساد، وتمهيد الطريق نحو تنمية قوية ومُدمجة ومستدامة قادرة على الاستجابة للآمال والتطلعات المشروعة لمواطنينا، من الأجيال الحالية والقادمة على السواء.
وأوضح، أن هذه الطموحات تتطلب استراتيجيات شمولية على المدى القصير والمتوسط والبعيد، متعددة الأبعاد تجمع في الوقت ذاته بين التربية والتوعية والوقاية وتعزيز الحكامة، بالإضافة إلى كشف وردع وزجر أفعال الفساد.
وأكد على أن الوقاية تعتبر المحور المركزي والأساسي الذي تقوم عليه هذه الاستراتيجيات، في ظل فرض هذه المقاربة نفسها باعتبارها الوسيلة الوحيدة لمواجهة تفاقم وتعقد ظاهرة الفساد وتمظهراته، وأن الوقاية المهيكلة، المندرجة في صلب السياسات العمومية، هي وحدها القادرة على تهيئة الشروط اللازمة لتجفيف بؤر الفساد، ومنع انتشار الممارسات غير المشروعة، والتي تسمح تبعا لذلك بإعطاء الأبعاد الأخرى المتعلقة بالتربية والتوعية والكشف والزجر مصداقيةً وفعاليةً.
كما أكد في السياق ذاته، على التداخل والترابط بين أبعاد مكافحة الفساد وعلى الدور المحوري للوقاية، الذي يغذي ويتغذى طبيعيا من الدعامات الأخرى التي ذكرتها سابقا، في إطار مسار بناء دينامي ومتحرك، سنرجع إليه بالضرورة خلال هذين اليومين.
وأبرز رئيس الهيئة، أن هذا الدور المحوري للوقاية هو الذي جعل المجموعة الدولية تتبنى إعلان مراكش خلال الدورة الرابعة للدول الأطراف في اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد التي انعقدت بالمغرب سنة 2011. وبعد اثني عشر (12) عاما، موضحا أن هذه القناعة نفسَها ترسخت أكثر، وهي التي دفعتنا جميعا للتعبئة ولتوحيد قوانا والاستفادة من رؤى وتجارب كل منا لإعطاء دفعة جديدة وعمق أكبر لروح إعلان مراكش؛ تعبئةٌ مطبوعة بحضور إفريقي وازن وقوي تجد جذورها في العزم الذي تعزز أكثر خلال السنوات الأخيرة من أجل مكافحة الفساد في القارة، وتم وضعه في أجندة إفريقيا 2063 ويحظى بدعم الدول الأطراف في اتفاقية الاتحاد الإفريقي للوقاية من الفساد ومحاربته.
وأشار في كلمته إلى رمزية سنة 2018 التي تم تحديثها "سنة مكافحة الفساد في أفريقيا"، حيث ركزت خلالها الدول والمنظمات المعنية تفكيرها على تقييم المقاربات المعتمدة حتى الآن لمكافحة الفساد في القارة، وعلى الإجراءات التي ينبغي اتخاذها لتعزيز فعاليتها وجعل مكافحة الفساد التزامًا للتحول بالقارة.
وأضاف الراشدي، أن مؤتمر رؤساء دول وحكومات الاتحاد الإفريقي، اعتمد في دورته الحادية والثلاثين التي عقدت في 2018، إعلان نواكشوط بشأن السنة الإفريقية لمكافحة الفساد. وبهذه المناسبة وجه جلالة الملك محمد السادس رسالة إلى المشاركين في المؤتمر أكد فيها أن الفساد يساهم.... "في الانحراف بقواعد الممارسة الديمقراطية، وفي تقويض سيادة الحق والقانون؛ كما يؤدي إلى تردي جودة العيش، وتفشي الجريمة المنظَّمة، وانعدام الأمن، والإرهاب [...]. ومن ثَم، تستدعي مكافحة هذه الآفة الاستفادة من جميع التجارب والخبرات، في إطار رؤية موحدة ينخرط فيها جميع الشركاء [...] وبالتالي، ينبغي أن نضع محاربته في صميم أولوياتنا، طالما أنه يشكِّل أكبر عقبة تعيق جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتحد من طموح شبابنا ". (نهاية الاقتباس).
وثمن، التزام العديد من الدول الافريقية من خلال اعتماد استراتيجيات لمكافحة الفساد، مكنت من تحقيق بعضها لتقدم ملموس في المؤشرات الدولية، مُسجِلة تنقيطا أعلى من المتوسط بل أعلى أحيانا من الدول المتقدمة في هذا المجال، ومنها على سبيل المثال رواندا، بوتسوانا، الرأس الأخضر، جزر سيشيل.
وكشف المتحدث أن المغرب الذي أطلق بدوره استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد سنة 2015، عرف خلال السنوات الخمس الأخيرة، تغييرات عميقة على مستويات عدة خاصة على المستوي التشريعي حيث تم تسجيل تقدم كبير تمثل بشكل خاص في المصادقة على عدة نصوص قانونية ودخولها حيز التنفيذ، من بينها القانون 46.19 المتعلق بالهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها الذي وسع وكرس المهام الدستورية لهذه المؤسسة.
وأوضح، أن المؤتمر المنعقد اليوم في الرباط، يهدف إلى أن يكون فرصة لتعزيز هذه الجهود، من خلال المشاركة والإثراء المتبادل، وذلك بتعميق التفكير في المحاور الكبرى المهيكلة لإعلان مراكش ولمختلف القرارات التي تم اعتمادها للتتبع والتنفيذ. وهي المحاور التي تهم موضوعات هامة منها:
- تعزيز دول الحق والقانون من خلال المقتضيات المؤسسية والقانونية والتنظيمية التي تجعل من الوقاية من الفساد رافعة حقيقية. - الاستثمار المنتج والشامل، الذي لا يمكن أن يستفيد من كل الإمكانات التي يتوفر عليها بلد ما، الا بتحرير الطاقات وضمان الأمن والثقة على المدى الطويل، من خلال تدابير الوقاية والملاءمة في مجال مكافحة الفساد والتي يجب تطويرها ودعمها بإشراك القطاع الخاص. - أن مستقبل بلد ما هو شبابه، الفاعل في المجتمع المدني والمنخرط في الأوراش المجتمعية والاستراتيجية. ومن بين أهم هذه الأوراش ورش الوقاية من الفساد وترسيخ قيم النزاهة والحكامة المسؤولة الذي يعد أحد أهم ركائز التنمية والتماسك الاجتماعي. - أخيرا، فإن التعقد المؤكد لظاهرة الفساد وتمظهراته، يفرض أن يكون موضوع البحث والابتكار، في هذا المجال، في قلب انشغالاتنا، لكي تكون مقاربات وسياسات الوقاية من الفساد ومكافحته مؤسسة وفي مستوى الرهانات المطروحة.
واعتبر محمد بشير الراشدي، أن هذه المواضيع نفسها هي التي تشكل الخيط الناظم لأشغال هذه الندوة، التي سنقوم من خلالها بجرد حصيلة السنوات الأخيرة في مجال الوقاية من الفساد، للاستفادة من التقدم المحرز والإنجازات، وتحديد سبل التقدم نحو دينامية أقوى ومؤثرة.
وأكد رئيس الهيئة الوطنية، أن العمل الذي تم القيام به حتى الآن والأدبيات المتاحة، ولا سيما تلك التي أنتجها الشركاء المشاركون في الإعداد لهذه الندوة، تشكل مادة غنية، وسيتم بالتأكيد تعميقها وإثراؤها أكثر بالنظر إلى نوعية وخبرة المتدخلين والمشاركين في مختلف الجلسات وورشات العمل التي سيتم عقدها خلال هذين اليومين.
وقال في هذا الصدد، "إن طموحنا، الذي يتجاوز مدة هذه الندوة المنفتحة على العالم، وبمشاركة أفريقية قوية، هو خلق روابط وتقارب بين الجهات الفاعلة المعنية، بهدف إبقاء هذه المواضيع حاضرة على المدى الطويل وإعطائها العمق اللازم الكفيل بمساعدة صناع القرار في بلداننا" .
وحسب المتحدث، فإن هذا الطموح يبدأ بدعم اقتراح مشترك لقرار جديد " إعلان الرباط" يأخذ المشعل من "إعلان مراكش" بهدف العمل على اعتماده خلال الدورة العاشرة لمؤتمر الدول الأطراف المقرر عقدها في دجنبر المقبل في أتلانتا. ونأمل أن يكون هذا القرار قويا وقادرا على خلق دينامية حقيقية في الاستراتيجيات الوطنية والتعاون الدولي في مجال مكافحة الفساد والدور الذي يلعبه ذلك في تنمية الدول والاستقرار في العالم. دينامية شاملة مدعومة من قادة الدول، ومعبِّئة للفاعلين السياسيين والاقتصاديين، والمجتمع المدني والمنظمات الدولية المنخرطة في هذا المجال.
وعبر محمد بشير الراشدي في ختام كلمته عن قناعته بأن الإرادة والأهمية التي يوليها المؤتمرون لهذا الموضوع كفيلان بإنجاح هذه الندوة، وأن عزمهم على مواجهة آفة الفساد التي تنخر اقتصاداتنا ومجتمعاتنا سيقود الجميع لضمان تنفيذ القرارات التي ستسفر عنها هذه الأشغال بالنجاعة الضرورية، وذلك بهدف إحداث تأثير قوي في بلداننا، وملموس من قبل المواطنين.