الصحافي والأستاذ الزائر بالمعهد العالي للإعلام والاتصال في حوار ل"العلم": على الصحافيين استثمار التقنيات الجديدة والاستفادة منها في تطعيم المعلومات الآنية والتغطيات الإخبارية والاستقصائية في هذا الحوار مع جريدة "العلم"، الذي يأتي في سياق مواكبة تأثير الذكاء الاصطناعي على مجالات حياتنا كليًا، بما فيها الإعلام والصحافة، يؤكدُ يونس مسكين صحافي وأستاذ زائر بالمعهد العالي للإعلام والاتصال، أن هناك تراكما كبيرا في العجز عن مواكبة التطورات الكبيرة والمتسارعة التي طرأت على مهنة الصحافة، في سياقنا، سواء من الناحية الشكلية أو المضمونية. وتابع مسكين، قائلا إن النموذج الاقتصادي للصحافة تعرض لتحولات عمودية وأفقية، وذلكَ من جهة، تطور أنماط استهلاك المحتوى وهجرة مفاجئة من القنوات والقوالب التقليدية إلى أشكال وأنماط جديدة. ويشدد المتحدث، على ضرورة استثمار التطورات التقنية التي فتحت مجالات جديدة للانتشار والحصول على تمويلات من خارج المصادر التقليدية الشحيحة والمتحكم فيها. ويدعو مسكين إلى ضرورة تأهيل شاملة وسريعة للمقاولة الصحافية، والاستثمار في العنصر البشري، لتطوير قدرات الصحافة المغربية على مستوى الشكل والمضمون. بداية، في تقديركم، هل سيؤثرُ الذكاء الاصطناعي على الصحافة بصفة عامة والصحافة المكتوبة تحديدا؟ الذكاء الاصطناعي بدأ بالفعل في التأثير على جميع مناحي الحياة، بل أخشى أنه بدأ منذ مدة طويلة دون أن ندرك ذلك أو نتوقف عنده للفهم والاستيعاب. والصحافة باعتبارها أحد الأنشطة المهنية في المجتمعات الحديثة، لن تسلم من هذا التأثير، بل إنها من بين أكثر الأنشطة المهنية التي ستتعرض لهذه التأثيرات بحكم ارتباطها بالقلب النابض للذكاء الاصطناعي، أي تكنولوجيا الاتصال ومجال "صناعة" البيانات. وداخل هذا المجال المهني الصحافي، تعتبر الصحافة المكتوبة الأكثر هشاشة أمام التحول الجاري، لكونه يمسّ عنصرا حيويا في نموذجها الاقتصادي ونمط إنتاجها، أي الحامل الورقي الذي بات في مهب الريح مع تغير العادات القرائية وهجرة القسم الأكبر من الناس نحو العوالم الرقمية وانكبابهم الجماعي على الشاشات. إذا ما تتبعنا التغيرات التي لحقت الصحافة، منذ تطور المادة المرئية في منصات التوصل الاجتماعي. برأيكم ما هو التغيير الذي سيطرأ على الصحافة اليوم وبالمغرب خاصة، بعدَ ظهور برنامج Chat GPT؟ الحقيقة أن أول ما يجب التنبيه إليه هو أن الذكاء الاصطناعي مفهوم أوسع وأشمل من أن يختزل في خدمة Chat GPT. هذه الأخيرة هي مجرد جزء من الجزء الظاهر من جبل الجليد، وهي مجرد خطوة ضمن أخرى عديدة، منها ما تم بالفعل وأصبح وراء ظهورنا ومنها ما هو آت. والتغيير الذي سيحمله ظهور خدمة Chat GPT على الصحافة، لن يخرج عن التغيير الذي بدأته الثورة الرقمية والشبكات الاجتماعية، أي مزيد من "السيولة" المعلوماتية وصعوبة ملاحقة بله التحكم في تدفق المعطيات، والتحقق منها، وتمييز الجيد من الرديء... وكما قال حكيم اللسانيات المعاصرة، نعوم تشومسكي، فإن هذه الخدمة الجديدة المعروفة باسم Chat GPT سوف لن تؤدي سوى إلى مزيد من السرقة الفكرية وتزييف المحتوى الرائج بين الناس، وتمكين المزيد من الدخلاء وعديمي الكفاءة من اقتحام مجال الصحافة، وتمكين الفاعلين المكلفين بالتضليل والتغطية على الحقائق من وسائل أكثر فعالية بالنظر إلى سهولة إنتاج المحتوى وتقديمه في هيئة تحول دون اكتشاف ثغراته بسهولة. في تقديركم، هل هذا البرنامج سيغير من طبيعة الأجناس الصحافية وصحافة السرد خاصة؟ لا أعتقد ذلك، الأجناس الصحافية وصحافة السرد هي نتاج تطور طويل في الممارسة المهنية، وهي مقومات لا توجد صحافة بدونها، وبالتالي مهما تطورت التقنية وأنتجت أدوات (Tools) جديدة تسهل وتطور شكل وطريقة إنتاج المحتوى الصحافي وطرق ايصاله إلى الجمهور وتحقيق الأثر المرجو منه؛ فإن مقياس تقييم جودة الصحافة وتمكينها من الاضطلاع بوظائفها، سيظل هو القاعدة الراسخة الخاصة بمختلف الأجناس الصحافية وتقنيات السرد الصحافي. من الطبيعي أن نرى هذه الخدمة الجديدة التي وفرها الذكاء الاصطناعي توظف في "انتحال" الأجناس الصحافية ومطالبة هذه التقنية بتحرير المحتوى الصحافي وإلباسه مظهر السرد الصحافي، لكن ما دام مستهلك المحتوى الصحافي (القارئ) هو الإنسان، فإن تحقيق العملية التواصلية عبر الصحافة لدورها الكامل تبقى محتاجة إلى وجود الإنسان في موقع المرسل أيضا. إذن، كيف يمكن للصحفيين استثمار التطورات الرقمية الحاصلة لتطوير أشكال ومضامين صحافية جديدة؟ يمكن بالفعل للصحافيين توظيف هذه التقنيات الجديدة والاستفادة منها، وذلك عبر استثمار ما تتيحه من ولوج سهل وسريع إلى المعطيات وقواعد البيانات، ومن ثم تطعيم المعلومات الآنية والتغطيات الإخبارية والاستقصائية، بما تحتاجه من خلفيات وسياقات وأبعاد وانعكاسات محتملة. كما تسمح هذه التقنيات الجديدة أساسا بتطوير وتحسين الشكل الذي تقدم به المادة الصحافية، من خلال الإمكانيات الضخمة لتحويل البيانات إلى محتوى بصري، ثابت أو متحرك، والإمكانيات الجديدة للمزج بين مختلف القنوات (نصوص وصور وصوت وفيديو...)، وبالتالي؛ إنتاج محتوى يجمع بين المضمون القائم على المعلومات الدقيقة والهامة والآنية... أي المضمون الجيد، وبين طريقة العرض والتقديم التي تلائم ما تتطلبه المنصات الرقمية الجديدة والخوارزميات لتحقيق انتشار أكبر للمحتوى، وفي مرحلة نهائية، إنتاج محتوى يلائم العادات الاستهلاكية الجديدة المرتبطة بالمشاهدة إلى جانب القراءة والولوج إلى الصحف عبر الانترنت وتحديدا بواسطة الهواتف المحمولة... بالمقابل يطرح تطور الذكاء الاصطناعي واستعمالاته في الصحافة تحديات كبرى، من قبيل التحيزات الأخلاقية والسياسية والدينية أيضا. برأيكم ألن يؤثر هذا مستقبلا على المبادئ الكبرى للعمل الصحافي؟ هناك تأثير مؤكد في هذا الاتجاه، وقبل أن تخرج إلى الوجود خدمات جديدة من قبيل Chat GPT، كانت دراسات وتقارير علمية وأخرى حقوقية صادرة عن منظمات دولية مثل المقرر الاممي الخاص المكلف بحرية الرأي والتعبير؛ كلها تحذر من التهديدات الكبرى التي يمثلها الذكاء الاصطناعي على المحتوى الصحافي الذي يحقق الأهداف الأصلية لإقرار وحماية حرية الرأي والتعبير، والمتمثلة أساسا في حصول الناس على المعلومات التي تهمهم وتفيدهم ثم حريتهم في تداولها والتعليق عليها. من المعلوم أن الخوارزميات، التي هي بمثابة المحرك في الذكاء الاصطناعي، تصمم في الأصل بخلفيات تجارية ترمي إلى توجيه المتلقي لخدمة أغراض تجارية محددة، أي إقناع المستخدم (الزبون) بالإقدام على فعل محدد (النقر أو المشاهدة او الاشتراك أو الشراء...)، وبالتالي لم تعد قنوات نشر وتوزيع المحتوى الصحافي مؤمّنة كما كان في السابق، حين كان البث التلفزيوني والإذاعي يصل مباشرة من محطة البث إلى قعر بيوت الأسر، والصحف توضع مباشرة في علبة البريد الخاصة بكل قارئ أو مشترك. مع هذه التقنيات الجديدة أصبح ذهن الصحافي نفسه تحن تأثير هذه الخوارزميات التي تقرر دون علمه ما هي القصص والمعلومات التي تقع عليها عينه وبالتالي تحدد اختياراته التحريرية، كما يواجه المحتوى الصحافي بعد إنتاجه عقبة مماثلة لكون الخوارزميات تتحكم في طبيعة المحتوى الذي يصل إلى شاشة كل مستخدم. وكما يعلم الجميع، وعلاوة على خلفياتها التجارية، تنطوي الخوارزميات على تحيزات أخرى ذات طبيعة سياسية وإيديولوجية، إما مقصودة أو ناتجة عن تحيزات المبرمجين الذي سهروا على إعدادها. في التقرير السنوي الأخير الذي أصدرته رويترز حول الصحافة والإعلام والتكنولوجيا 2023، تحدث عن أن 72 بالمائة من الناشرين يعبرون عن قلقهم من عدم اهتمام الجمهور بما تنشره وسائل الإعلام، من خلال التغطيات الصحافية مثل الحرب الروسية على أوكرانيا أو التغيير المناخي، بالمقابل يخطط هؤلاء الناشرون التركيز على ما يفسر الأحداث وإنتاج التقارير الإيجابية، برأيكم هل هذا التوجه قد يغير من طبيعة الصحافة عندنا، نحو صحافة متخصصة في إنتاجِ مضامين جديدة؟ هذا التقرير السنوي الذي يصدره معهد رويترز بات من المراجع الأساسية التي يستعملها الناشرون في مختلف أنحاء العالم، لوضع خططهم الجديدة لتحقيق أهدافهم التحريرية والتجارية. والحقيقة أن الخلاصة التي يشير إليها سؤالك هي مجرد واحدة من خلاصات متتالية ومتغيرة، إذ لا يكاد الناشرون والقائمون على المؤسسات الإعلامية ينهون جهودهم للحاق بمتغير كبير مثل هذا، حتى يفاجئهم المجال الرقمي بتغييرات جديدة. لا أقصد هنا التقليل من أهمية الخلاصة المتمثلة في ضعف اهتمام القراء بالمحتوى الصحافي، لكنني أقصد أن المؤسسات الإعلامية مطالبة باليقظة الدائمة والقيام بجهد ذاتي لملاحظة ورصد ما يحصل من تغييرات، لان هناك مجهول كبير في هذا المجال هو الخوارزميات التي تعتبر شفرة سرية تتحكم فيها شركات عملاقة وتقوم بتغييرها وفقا لأهدافها ومصالحها، وبالتالي قد يذهب جهد كبير لإنتاج نمط جديد من المحتوى لتلبية شروط المنصات الرقمية، أدراج الرياح في لحظة معينة بفعل تغيير الخوارزميات. والحل الذي يشير إليه سؤالك هو أحد مفاتيح اللغز، ذلك أن المستخدم بات يعاني تخمة من حيث تدفق المعلومات وتضاربها، وأصبح يميل أكثر نحو المحتوى المتأني والتفسيري. الإغراق المتزايد لذهن المستخدم في كم هائل من المعلومات، ولّد لديه حاجة جديدة وهي فهم واستيعاب وانتقاء المعلومات، وهنا تبرز فرصة أخرى لإثبات استمرار الحاجة إلى الصحافة وجدوى استمرارها. بالنظر إلى تجربتكم المهنية، هل الصحافة في المغرب مستعدة إلى الانتقال إلى "براديغم" جديد في الصحافة على مستوى الشكل والمضمون؟ لا، للأسف الشديد لا أعتقد. هناك تراكم كبير في العجز عن مواكبة التطورات الكبيرة والمتسارعة التي طرأت على مهنة الصحافة، سواء من الناحية التقنية والتكنولوجية أو من الناحية الاقتصادية. النموذج الاقتصادي للصحافة تعرض لتحولات عمودية وأفقية، بمعنى في علاقة المقاولة الصحافية بمحيطها الاقتصادي من حيث تطور أنماط استهلاك المحتوى وهجرة مفاجئة من القنوات والقوالب التقليدية إلى أشكال وأنماط جديدة، ثم علاقة المقاولة الصحافية بالتقلبات والتحولات الدولية التي جعلت المنصات العملاقة للإنترنت ومحركات البحث ومنصات التواصل الاجتماعي...الخ، تتربع على رأس هرم التدفقات المالية. لقد أضعنا العقد الأخير على الأقل، وبدل استثمار التطورات التقنية التي فتحت مجالات جديدة للانتشار والحصول على تمويلات من خارج المصادر التقليدية الشحيحة والمتحكم فيها، وانغمس الجميع في إعادة تدوير ما بات يعتبر متجاوزا ومكرورا، ولعب الدعم العمومي للصحافة دورا مخدرا، إذ لم يتم ربطه بعملية تأهيل شاملة وسريعة للمقاولة الصحافية، كما لم نستثمر في العنصر البشري، بل حصل العكس تماما، أي نزيف كبير للكفاءات والخبرات والأقلام التي حُملت على الرحيل أو تم طردها أو كسرها بطرق متعسفة. لكل هذا لست متفائلا بخصوص قدرة الصحافة المغربية على الانتقال إلى "براديغمات" جديدة سواء من حيث الشكل أو المضمون.