يبتسم الشيخ «لويس»يرتطم فوق قامته المقوسة. يجرّ عصاه بتأن. يدخل إلى المقهى. يطلب كأسا من النبيذ الأبيض الذي اعتاد على طلبه. يبدأ ارتشاف الكأس في طقوس كانت تمليها الجلسة. لقدأصبح يداوم على ذلك منذ مجيء النادلة الجديدة التي تستقبله بعبارتها: - صباح الخير أيها الرجل الشاب. ينتشي مع العبارة. يقوى بمحاذاة الكنتوار. يطلب كأسا آخر. يتطلع إلى النادلة بما يستفيض وجهها وتتكرم شفتاها. تبتسم في وجهه. تضع الكأس بين يديه. يشرع في فتح بريده اليومي. يشرب الكأس بتنسّم جرعات، جرعات. ويترك لها إكرامية سخية. يجمع البسمة المنتشية في تجاعيد وجهه. تحاول أن تقرأها النادلة وبصعوبة لتفكّكَ ما خطّ على وجهه. تبتسم. ويعود إلى البيت. فتودعه بكلام لطيف : - إلى اللقاء أيها الرجل الشاب. يكور فمه كلمات. يودّع باسما. يهزعصاه مرتجفا والعبارة ترن في أذنه. يفتشها في سريرته. فيدخل المنزل مبتسما. بقرب سورالكنيسة يستيقظ الشاب نيكولا. يمد يده إلى القنينة الموضوعة عند رأسه. يبلل يديه بمائها. يمررهما على وجهه. يمسح بالفوطة المكومة في جرابه. يمرر يده اليمنى على رأسه. يتهندم. يتغبن في نفسه: - ليست هناك حنفية قريبة مني حتى أمعن في غسل وجهي فأتهندم كما يلزم. أصبح نيكولا يفعل كل ذلك باكرا. يترقب تحية الآنسة لورنس في طريقها إلى العمل. تحييه كل صباح والمحفظة في يدها. والبسمة منشورة على شفتيها. كان نيكولا بدون مأوى. يبيت عند سورالكنيسة. عَلَقت برأسه صورة الآنسة لورنس منذ أن أهدت له هدية لعيد مولد السيد المسيح. ساقتها الدردشة فتعرفت عليه أكثر. أصبحت تناوله الكتاب تلوالكتاب. تسأله كل صباح بعد التحية: - كيف أصبح نيكولا ؟ عند الفجر يتقلب في فراشه السي إبراهيم الفقير إلى الله. كانت تلك ساعة يقظته قبل أن يعجزعن العمل. تصله عبر نسيم الفجر تحية الضيعة. يتحرك في فراشه ينتظر فلق الصبح ولايتردد لتلبية النداء. يتحسس بعصاه الطريق إلى الدكان، حيث كان يتقاسم كأس الشاي مع الفلاحين. يقترب من ضيعته المحاذية لدكان القرية. يحييها وتحييه. يتنفس نفسا عميقا من هوائها. يفوح به على جلبابه حتى يثخن ببركتها. أصبح الرجل الشاب - لويس- يعود إلى المقهى في المساء. يشرب كأسا أخرى في الساعة السادسة مساء. عادة دخلت عالمه. لم يعد المنزل عالمه الوحيد. ولم يعد يكتفي بفسحة الصباح ثم يتمدد في الأريكة ينصت إلى الأخبارويطوف على برامج التلفزة. - كيف أصبح نيكولا؟ عبارة راح نيكولا ينتظرها. غيرت من عوائده. يستيقظ باكرا، تلك عادته. يبعد جانبا قنينات النبيذ الفارغة. ويتعفف عن السعي حين يترقب عودة الآنسة لورنس في المساء. ينتظر التحية يفتشها. يقرأ قسماتها. عرف مكتبتها. وعرفت ذوقه. حين تعرف مكتبة الشخص فقد عرفت أحد مفاتيح شخصيته. نصف توجهه. إلى وقت غير بعيد، كانت اختيارات نيكولا لا تتزحزح. الشارع ملجأه والسماء سقفه، تلك كانت فلسفته. وحين يشتد البرد يرفض بعنف الذهاب مع دوريات الإسعاف لقضاء الليل في الدفء. كان لا يحب أن ينام بعيدا عن الشارع. يكره العودة إلى المنازل . كابوس تربطه مع الذكرى. كان أولاد الحاج إبراهيم يحثون أباهم لبس الجلاليب البيضاء والبلغة الصفراء لتكون مُناسبة مع شخصه ولتزيده وقاراعلى وقار. تلك هي ملابس أيام الجمعة والأعياد. وبعد مرضه واعتزاله بذلة العمل الزرقاء، صارت لباس سائر الأيام. .وحين يزيد المرض ويشده الفراش، تستعصي الحركة بعيدا عن المنزل وعن الفراش. يتشوق لتحية الضيعة. يُهدئ باله ويُسكّن قلبه. تطوي المكان والزمان، تلبس خرقتها وتعوده قبل طلوع الفجر. تفسح له خرقتها يتجول فيها بلباس العمل. يطوف بين أشجارها خطوة خطوة وبجانب لالة فاطمة. يتفقد الغلة، مجاري المياه والنبات . الفقير إلى الله كما يحب تسميته. وضع الرضى في قلبه ووضعته الضيعة في قلبها. يرتوي لريّها ويعطش لعطشها. يصلي ويطلب الغيث لتروى. ازداد بالضيعة تعلقا بعد أن فاضت روح لالة فاطمة زوجته. كانت له وكان لها طوال أربعين سنة. من أين يبدأ الاختيار.؟ كيف يقرر الإنسان ؟ على ماذا يستند في قراراته؟ كيف يعود ويعدل عنها؟ نيكولا ينتعش للدفء، دفء العبارة، دفء الابتسامة. يغير من عادته. ولويس الشيخ الشاب لا تسعفه رجلاه، يصرّ على الخروج ببطء يبحث عن كأس، عن العبارة التي تنعشه. والسي إبراهيم الفقيرإلى الله يتشوق إلى الضيعة وتتشوق إليه. حين يقعده المرض تطوي هذه الضيعة الزمان والمكان فتأتيه قبل طلوع الفجر. تفتح له ذراعيها. فيمشي فيها خطوة خطوة وبجانب لالة فاطمة، كما كان يحلو له أن يسميها. باريس 2006