لا جدال في أن الحرب الدائرة رحاها بقوة و حدة بين روسياوأوكرانيا، تعلن بوضوح عن إغلاق قوس حقبة من النظام العالمي السائد منذ فترة ليست بالقصيرة، و يفتح قوسا آخر لمرحلة جديدة من نظام عالمي معدل، أو جديد، سيخرج من فترة مخاض عسيرة يعيشها العالم منذ مدة . والواضح منذ البداية، أن الحرب من حيث الشكل والوقائع المباشرة تجري بين روسيا الفدرالية من جهة، وأوكرانيا من جهة ثانية، بسبب حسابات ومعطيات سياسية وجغرافية صرفة، و نتيجة تراكمات لأحداث تهم علاقات بلدين جارين باعدت بينهما الحسابات السياسية رغم أن الجغرافيا جمعتهما و قربت بينهما. ولكن من الغباء، أو من باب التقصير، التعامل مع هذه الحرب التي هزت أركان الاستقرار في العالم، و هي تتجه إلى الإلقاء بعوامل اقتصادية بالأساس وأخرى سياسية في مستنقع الأوضاع العالمية البالغة التعقيد. لأن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها و لا إغفالها ، تؤكد أن ساحة هذه الحرب مجرد عامل مساعد على فهم واستيعاب ما يجري، بل إن التطورات المتسارعة في الصراع و التنافس الحاد بين القوى العظمى قاد إلى اتفاق هذه القوى على تحديد واختيار مكان و موقع المواجهة المباشرة بينها، و التي شاءت هذه الحسابات أن تكون هذه المرة أوكرانيا . مهم أن نذكر ها هنا، أن شخصيات سياسية ورسمية بارزة في دول القارة العجوز أعلنت صراحة، و دون أي تردد، عن استغرابها من نشوب هذه الحرب فوق تراب القارة الأوربية. لأنهم هناك اعتادوا اشتعال فتائل الحروب في دول بعيدة عن قارة تستفرد بجميع عوامل الاستقرار والوعي والرخاء، من قبيل دول عربية وأفريقية واسيوية. وأن القوى العظمى، خصوصا الغربية منها، هي التي كانت تدير بحنكة كبيرة هذه الحروب، بما يمكنها من مراكمة المكاسب الاقتصادية من جهة، من حيث عائدات مبيعات الأسلحة للدول والأطراف المتنازعة، ومن حيث تكريس التبعية الاقتصادية. والمكاسب السياسية الاستراتيجية أيضا المتعلقة بالصراع المحتدم بين نفس القوى على مناطق النفوذ في العالم. ولذلك لم يكن يتوقع أن تجتمع حسابات القوى المتجاذبة و المتواجهة باستمرار على اختبار جزء من هذه القارة للدخول في مرحلة المواجهة المباشرة بينها، والتي يراهن كل طرف فيها على حسم العوامل و الأسباب والمعطيات المحددة لطبيعة النظام العالمي، الذي يعيش فترة مخاض في عمق الأزمة العالمية الملتهبة . إذن الحرب المشتعلة تتجاوز موقعها الجغرافي لتتمدد في عمق الجغرافيا السياسية والاستراتيجية العالمية . فمن جهة روسيا الفدرالية لا تقبل برزمة من الحصي تصر القوى الغربية على أن تدسها في حذائها لتشعر بالآلام الفظيعة كل ما حاولت المشي و الترجل. و تصبح لا هي قادرة على إزالة الحصي من تحت أقدامها، ولا هي قادرة على التقدم إلى الأمام بخطوات قليلة. وفي هذا السياق يجب فهم أزمة جزيرة القرم التي اقتطعتها روسيا من أوكرانيا في سنة 2014 وما تلا ذلك من تطورات حادة انتهت بسقوط أنظمة سياسية كانت موالية لروسيا، و في مقدمتها ما سمي بالثورة البرتقالية التي جاءت بنظام سياسي موال للحلف الغربي في جوار روسيا. بمعنى أن دول الحلف الغربي نجحت لحد الآن في رهان تطويق روسيا بانقلابات و ثورات وحروب في محيط روسيا القريب جدا منها، مما حقق لها لحد اليوم تحييدا نهائيا لأي خطر روسي قد يحدق بالدول الغربية وبحلفائها في كثير من مناطق العالم ،و إنهاكها بمواجهات بديلة مما يضعف دورها في باقي المناطق والقضايا . روسيا التي يقودها رجل يمثل نموذجا واضحا لمفهوم القومية الروسية التقليدية لما قبل تحلل الاتحاد السوفياتي، وسقوط جدار برلين ،أدركت أن سيرورة المواجهة تكبدها خسائر كبيرة و تشكل خطرا حقيقيا عليها، ليس على مصالحها الراهنة فقط، بل وعلى مستقبلها برمته، لذلك قررت نقل هذه المواجهة من مرحلة الغموض والالتباس إلى مرحلة الوضوح، و من فترة المواجهة غير المباشرة إلى أخرى مباشرة في اتجاه الحسم النهائي. وهي بذلك تقدر أن التكلفة الشاملة للحرب الحالية ستكون بكل تأكيد أقل من تكلفة الحرب مستقبلا. ولهذا اعتبرت روسيا أن التوقيت مناسب جدا لإحداث هذه النقلة النوعية في طبيعة هذه المواجهة، واختبار مدى قدرة الخصم الغربي على التصعيد. وهي بذلك ليست متحررة من خلفية وضع نهاية لنظام عالمي يقوم ويسود على أساس القطبية الأحادية التي أطلقت يد جهة واحدة في تقرير مسار وتوجهات ومضمون النظام العالمي السائد لخدمة مصالحها السياسية والاستراتيجية والاقتصادية الكبرى. وهي تدرك تماما أنها ليست وحيدة في هذا الصدد، بل هناك أطراف أخرى من خصوم وأعداء الغرب وأوروبا سعوا كثيرا في سبيل ذلك، لكنهم تحاشوا المواجهة المباشرة، والحديث هنا عن الصين ودول نامية أخرى وقفت متحينة الفرصة المناسبة للكشف عن حقيقة موقفها مما يعيشه و يعرفه النظام العالمي الأحادي القطبية. و قد تكون الحرب الحالية هي الفرصة التي انتظروها لمدة طويلة جدا . يجب أن نعترف جميعا بأننا قبل بداية هذه الحرب، كنا نجهل كثيرا من الحقائق السياسية و الاقتصادية المرتبطة بالأوضاع في تلك المنطقة من جغرافية العالم، ليس أقلها أهمية مثلا حجم الانتاج الأوكراني والروسي من العديد من المواد الغذائية العالمية وإنتاج مواد الطاقة، لتؤكد الحرب الحالية أنها مختلفة عما عرفه العالم خلال عشرين سنة الماضية من حروب و احتلال وإسقاط أنظمة في بعض دول العالم وزرع أخرى. و أن الحرب الدائرة في أوكرانيا حاليا تقترب من حرب عالمية من حيث تداعياتها الاقتصادية و تأثيراتها على الأمن الغذائي العالمي، بما يهدد العالم بأسره بمجاعة حقيقية. و الأكثر من ذلك كله كشفت مدى ارتهان اقتصاديات غربية عظمى نفسها إلى ما يتم انتاجه في روسياوأوكرانيا، وها نحن نتابع القلق المتزايد لكثير من هذه الدول من رزمة العقوبات الاقتصادية و المالية التي اتخذتها الدول الغربية ضد روسيا بالخصوص في محاولة لإنهاكها وإجبارها على رفع الراية البيضاء لإعلان الاستسلام . لا شيء حسم لحد الآن، اللهم الإقرار بأن العالم، بسبب هذه الحرب هو بصدد الانتقال من مرحلة إلى أخرى، و أن العديد من المسلمات اهتزت، والقناعات ارتدت. أما متى وكيف ستنتهي الحرب الحالية التي توقعت بعض الأوساط الغربية أنها مسألة أسابيع، إن لم تكن أيام؟ فتلك أسئلة تؤشر استحالة الجواب عنها، على أن العالم فعلا يوجد حاليا في مرحلة مخاض عسيرة تجهل هوية وطبيعة وحجم ما ستفرزه من حقائق ومعطيات جديدة.