أجزل الله المثوبة للإمام المحدث الحافظ الحجة البيهقي إذ جمع للمسلمين، وللناس عموما، كتابه «شعب الإيمان» الذي هو تفصيل دقيق ووثيق لمجمل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: «الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان». والبضع عدد مبهم مقيد بما بين الثلاث إلى التسع. وهذا الحديث رواه أئمة آخرون كمسلم وأصحاب السنن الثلاثة. وفي رواية مسلم عن هذه الشعب الإيمانية: «أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» إذن يمكننا أن نفهم أن هذه الشعب المتعددة تحتمل أن تكون مشتملة على فروع، وأنها متفاوتة، كما أنها مستوعبة لظاهر الإنسان وباطنه، ولمراتب الدين من إسلام وإيمان وإحسان، ومستغرقة لأعمال الفرد وأعمال الجماعة، وللعبادات والمعاملات، فضلا عن العقائد. وبذلك فهذا الحديث من أجمع الكلم المحمدي، وهو يدل على سعة رحمة الإسلام بالإنسان، إذ جعل الله تعالى له سبلا عديدة لاتكاد تحصر لفعل الخيرات والإكثار من الحسنات، واغتنام اللحظات في ما ينفعه دينا ودنيا، آخرة وأولى. وهذه هي سبل السلام. (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) (المطففين: 26) فالإسلام لم يحصر أعمال الخير في جانب دون آخر، بل فتح أبوابه مشرعة أمام الناس، كل من موقعه، وحسب استعداداته ومشاربه، واهتماماته. على أن من هذه الأعمال ماهو فريضة لا يجوز تركها، ومنها ماهو سنة مؤكدة، أو مستحب، أو رغيبة من الرغائب التي تزيد المؤمن إيمانا وأجرا. وهناك نوع من هذه الأعمال هو بمثابة الرأس من الجسد، بل لا يصلح الجسد إذا لم يكن مصدر هذه الأعمال صالحا، ونقصد به القلب. فالأعمال القلبية، التي تثمرها صفات قلبية معينة تختلف وتتفاوت صلاحا وفسادا. وشعب الإيمان القلبية هي أساس شعبه العملية فحب الله تعالى وحب رسوله، والرضا، والشكر والصبر والأنس بالله، والتفويض، والتوكل كلها وغيرها صفات قلبية أو أعمال قلبية تترتب عليها أعمال سلوكية. مثلما تترتب على أضدادها أضداد هذه الأعمال. بل إن النبي بين قيمة هذه الأعمال القلبية والصفات الباطنية التي تثمرها من خلال قوله: «والحياء شعبه من الإيمان». وتخصيصه الحياء بالذكر له معنى وأي معنى! فقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ماشئت». وهذا يدل على أن الحياء أصل كل خير، وأن فقده أصل كل شر. فالحياء ، كما في حديث آخر، خير كله. وهو شعور قلبي، وخصلة وجدانية، تظهر آثارها في الأفعال والأقوال. وقس على ذلك باقي صفات القلب. رحم الله الإمام البيهقي ونفعنا بكتابه القيم، حتى نتحلى ب «شعب الإيمان» العظيمة.