... قبل أن تفوز الصين بتنظيم الأولمبياد بسنوات عديدات، كان بعض عدائيها قد لفتوا الأنظار إليهم لما أبانوا عنه من تقدم وعلو كعب في هذه الرياضة ، فانهالت على مدربهم آنذاك أسئلة عديدة من صحفيين عديدين عبر العالم ، يستفسرون فيها عن السر وراء هذا التقدم وهذا التألق الملفت ، وعن "الروشيتة" التي استعملها آنذاك للوصول إلى كل ذلك المستوى العالي وفي ظرف وجيز لم تكن فيه ألعاب القوى قد عرفت طريقها إلى هذا البلد الذي كان يعرفه الجميع إلي جانب اليابان وباقي أصحاب الشرة الصفراء و"العيون الضيقة" على أنه لا يعير أدنى اهتمام لمثل رياضة الجري أو الكرة وما شابههما بالقدر الذي يوليه للرياضات الحربية .... وأذكر أن الرجل كان قد أجاب بعض الصحفيين بأن السر في ذلك يرجع إلى وصفة قوامها " التوابل ومرق الدجاج"... كان العداؤون الصينيون يواظبون على تناولها بعد التداريب ... كثيرون صدقوا الحكاية ، بل إن الكثيرين بدأوا في تناول الوصفة والمواظبة عليها منهم بعض المغاربة طبعا الذين كنت ألتقيهم وهم يجرون في الغابة وروائح التوابل والمرق والدجاج تفوح من أجسادهم " كالعتاريس "... لكنهم ظلوا حيث كانوا بل إن "كروشهم " زادت في التدلي أكثر مما كانت عليه ، ( ومن يدري فقد يكونوا قد زادوا أو نقصوا في الروشية ، وبالتالي لم يصلوا ألى ما وصله العداؤون الصينيون )... أو كما قال لي أحدهم : إننا شربنا المرق وأكلنا اللحم ومصصنا العظم ، وأضفنا حليب النعاج ، لكن الأيام لم تزدنا إلا ترهلا ، فأي سر في هذا الذي تبعه الصينيون وقرأنا عنه في كثير من الصحف والمجلات ؟ استحضرت هذه الحكاية عندما قرأت تقريرا عن تلك الأمم االصغيرة التي تتطلّع دائماً لاستقطاب الأضواء تحت سماء الأولمبياد الكبيرة. ، اذ يبرز أبطال قطفوا الذهب. كانوا بالطبع نتاج برنامج متطور، ولو على الصعيد الفردي، أو ثمرة نهج في ألعاب محددة أثبت جدواه على مرّ السنوات ، والبانامي ايرفينغ سالادينو واحد من تلك »الصناعة« المتطورة، وقد حصد في بكين اللقب الأولمبي في الوثب الطويل بعدما سطع نجمه في الأعوام الأربعة الأخيرة، وكان عنواناً رئيسياً لمنافسات المسابقة من خلال الأرقام التي سجلها، ومنها تجاوزه مسافة 8.73 متر في مستهل الموسم الحالي (لقاء أوريغون الأمريكي). وهو سابع أفضل رقم في التاريخ، والأبرز منذ 14 عاماً، فضلاً عن احتلاله المركز الأول في خمسة من اللقاءات الستة الدولية ضمن الدوري الذهبي »غولدن ليغ« العام الماضي. وأهدى سالادينو باناما ذهبية تاريخية، اذ إن سجلّها الرياضي خالٍ من المعدن الأصفر الأولمبي... قلت استحضرت هذا عندما أجاب والد بولت عن سرّ تفوق ولده أوساين بولت في الجري، قائلا بعفوية: »انه يأكل ما تنتجه أرضنا، ومن عناصر نظامه الغذائي نبات محلي ينمّي ألياف العضلات ويجعلها صلبة ولينة في الوقت عينه«... أكثر من ذلك أن مسؤولي الاتحاد الجامايكي لألعاب القوى اتجهوا مع البروفيسور ايرول موريسون لإخضاع تلك النبتة لأبحاث واختبارات في جامعة أيلاند للتكنولوجيا. كما موّلت جامعة غلاسكو الأسكتلندية أبحاثاً عن جينات الرياضيين الجامايكيين وعضلاتهم وميزة أليافها. ويقول البروفسور موريسون أن التفوق الجامايكي في الجري السريع تراكمي، مذكّراً بفوز آرثر وينت في سباق ال100م سنة 1948.وكانت جامايكا تحت الحكم البريطاني. كما أحرز هيرب ماكنيلي أربع ميداليات بين 1948 و1952. .. وتفخر وزيرة الرياضة الجامايكية بأن بلادها غنية بالمواهب قائلة "إننا نسهر عليها ونعهد بها الى مدربين أكْفَاء يعدّونها جيداً، ويعلمونها ماذا تأكل وكيف تتدرّب وتفوز«... وهكذا فالإنتاج الجامايكي »فخر الجزيرة الصغيرة« يشق طريقه الى العالمية ، إذ تَقتطع نسبة مئوية من مداخيله في أولى سنوات احترافه لتمويل برامج التأطير واكتشاف المواهب وصقلها. وبالتالي، انتزعت ألعاب القوى الجامايكية ب«التخصص« مكاناً فسيحاً لها تحت شمس الانتصارات، وحجزت لبلادها مقعداً دائماً على الساحة الرياضية الدولية، برغم الإمكانات المتواضعة.... لكن هل السر كل السر يبقى في هذه النبتة الذي ظل إسمها مستورا ، أم أن في الأمر مزحة على غرار مزحة التوابل ومرق الدجاج الصينية ... وكيفما كان الحال فإن سطوة العدائين الجامايكيين على المسافات القصيرة في الأولمبياد الصيني تؤكد أن هناك نظاما علميا متقدما قاسيا يتبعه العداؤون هناك وإلا لما شاهدنا ما شاهدناه من خلال تلك " الطائرات النفاتة" في مسافتي مائة ومائتي متر في أولمبياد الصين.